"ليس المهم أن نعيش حياة طويلة، بل أن نعيش حياة عريضة" (ابن سينا)

ظاهرةُ الخوف من الموت من الظواهر التي شغلت أذهانَ الناس والمفكرين، منذ العصور القديمة، والتي بات العلماء يدرسونها حالياً من وجهات النظر العلمية المختلفة (البيولوجية، الطبية، الفلسفية، الدينية، والنفسية).

وقد توصلتِ البحوثُ السيكولوجية التجريبية والسريرية إلى بعض الحقائق المهمة المتعلقة بموقف الإنسان من الموت وبمدى انعكاس ذلك على صحته النفسية والجسمية.

مع أن الخوف الحقيقي من الموت يبدو في نظر غالبية الناس شيئاً محتماً –أو سوياً– في الحياة فمن الممكن أن يرافقه خوفٌ مستبد ومتكرر من موتنا أو موت الأشخاص الذين نحبهم أو يهمنا أمرُهم في حياتنا والذين لا يمكن لنا أن نتمتع بالحياة من دونهم. فمن جهة، ربما كنا نخشى الانخراط الحقيقي في الحياة أو الاهتمام بالآخرين أو حتى تكوين آمال حول المستقبل؛ ومن جهة ثانية، ربما كنا لا نبالي أصلاً بحقيقة الموت من خلال إقناع أنفسنا بأنه لا يوجد فيه ما يستحق تفكيرنا وبأنه "حين لا بدَّ لشيء ما أن يحدث فليحدث"!.

إن الشباب، عموماً، يتصفون بمشاعر الاهتمام بالمستقبل وبالحياة حصراً. فالموت يبدو بعيداً عن تفكيرهم؛ أو هم غالباً ما يفكرون فيه حين يصيب "الآخرين" فقط وليس أنفسهم.

بعضهم الآخر يتبنى اتجاهات ومواقف لامبالية ويتحدون الموت، على أساس الظن بأنهم غير قابلين للاضطراب والفناء، أو يحاولون مواجهة قلق الموت بالعديد من الوسائل الدفاعية النفسية.

ولأن حالة الخوف من الموت مرعبة فإنهم يرفضون حقيقته ولا يفكرون فيه إلا حين يتقدمون في العمر. مثل هؤلاء الأشخاص، عندما يعمِّرون (يكونون على أبواب الشيخوخة والعجز)، يشعرون بأن هناك الكثير من الأشياء والأمور التي عليهم إنجازها وتحقيقها قبل موتهم، وذلك لأنهم لم يفكروا مسبقاً بقضية الموت بجِدية؛ وهذا يعني أنهم لم يُعمِلوا (تنبؤاً وتفكيراً مسبقاً) في موتهم.

إن الخوف من الموت يسير جنباً إلى جنب مع الخوف في الحياة – ومن الحياة! فإذا كنا نخاف الموت فإننا نخاف الانخراط في مشاريع الحياة المتعددة ومواقفها أيضاً. وإذا عشنا اللحظة الحالية فقط وانخرطنا فيها انخراطاً تاماً قدر الإمكان فإننا بعيدون غالباً عن التفكير في قضية نهاية الحياة. إن الخوف من الموت يتضمن خوفنا من مظاهره المختلفة مثل: فراق الذين نحبهم، فقداننا لأنفسنا، مواجهة المجهول، فقدان الوقت الذي يمكن لنا فيه إنجاز الكثير مما لم ننجزه.. إلخ.

يصف العالم النفسي كافاناو في كتابه المُعَنْوَن: "مواجهة الموت" مخاوف امرأة كانت تكابد خبرة الموت (الاحتضار) بسبب السرطان. وقد بين أن المخاوف التي عانتْها المريضة المحتضرة لم تكن على تلك الدرجة من الرعب والإثارة، كما يُتوقع عادة، وأن محاولاتها لتجنب المخاوف والهروب منها كانت أكثر إيلاماً وإزعاجاً من مخاوفها الحقيقية ذاتها! فإذا كان في إمكاننا مواجهة خوفنا من الموت فإننا نملك فرصة العمل من أجل تغيير نمط حياتنا، وذلك بإجراء تغييرات في علاقاتنا مع الآخرين ومع أنفسنا.

يقول د. غوردون إنه إذا كان في إمكاننا أن نتعايش وفكرة أن هذه اللحظة هي آخر لحظاتنا فإننا سنجد أن العديد من المشكلات والصراعات تتلاشى وتجد حلاًّ، بحيث تكون الحياة أبسط وأكثر إرضاءً لنا.

الموت ومعنى الحياة

إننا قد نتقبل فكرة الوجوديين القائلة بأن قبول الموت يرتبط ارتباطاً وثيقاً باكتشاف معنى الحياة وغايتها. ومن أقوال قدماء الإغريق بهذا الصدد: "تأمَّلِ الموتَ وتوقَّعْه إذا أردت أن تتعلم كيف تعيش".

وقد عقَّب بعضهم على ذلك بقوله: "ما من أحد يتمتع بطعم الحياة الحقيقية سوى ذاك الذي يكون مستعداً دوماً لمفارقتها"، و"إن ذات الإنسان تولد وتنشأ حين يواجه الموت فقط".

والأمثلة التي تشهد على صحة هذه الأقوال تأتي من أشخاص يعانون أمراضاً خطيرة تجعل حياتهم تدنو من نهايتها. إن مواجهتهم للموت تحدوهم إلى ممارسة الكثير من الأنشطة في تلك الفترات القصيرة من حياتهم؛ إذ إن ضغط الوقت وضيقه يدفعهم إلى اختيار السبل والبدائل التي يقضون من خلالها أيامهم الأخيرة.

ويقول بعض الخبراء إن مرضى السرطان في العلاج الجماعي استطاعوا النظر إلى أزمتهم بوصفها فرصةً حرَّضتْهم على إحداث تغيير جذري في حياتهم؛ إذ ما إن اكتشفوا أنهم يعانون من مرض خطير (السرطان) فإن بعض التغيرات الداخلية الذاتية عندهم شملت جوانب مثل:

  • إحساس بالتحرر وبالقدرة على اختبار الأمور التي يريدون القيام بها وتحقيقها فعلاً.
  • إعادة تدبُّر سوابق حياتهم وتخصيص انتباه أقل للأمور التافهة.
  • إحساس متزايد بالحياة في هذه اللحظات وتقدير واضح لحقائقها.
  • تواصُل عميق مع أحبائهم أكثر من ذي قبل.
  • مخاوف شخصية أقل حول الآخرين وتناقص الاهتمام بالأمان.

في كتابه المُعَنْوَن: "هل هناك جواب عن الموت" شدد كوستنباوم (1976) على فكرة أن وعينا للموت يمكِّننا من أن نخطط لحياة غنية؛ إذ إنه يجعلنا نرى حياتنا رؤية كلِّية، كما يدفعنا إلى البحث عن الأجوبة الحقيقية والنهائية. إنه يرتبط بقدرتنا على تشكيل الهوية الشخصية المميِّزة لكلٍّ منا: "فمن خلال قبول موتنا الشخصي نتمكن من تحديد نمط الهوية التي نريد".

ويوضح لنا توقُّعنا للموت مَن نحن ومَن نكون؟. مثل هذا التوقع يُعتبَر وعياً عقلياً وخبرة متفهمة: "إنه يجعلنا على تماس مع آمالنا ويوجِّه حياتَنا برمتها".

إن معنى حياتنا يتوقف على واقع أننا كائنات فانية، محدودة القدرة على الفعل. إن في مستطاعنا أن نتخذ قرارات واعية في حياتنا أو أن ندعها كما هي: "يمكن لنا أن ندع الأحداث تحرِّكنا وتتلاعب بنا كما يحلو لها أو أن نكون فعالين في الاختيار بحيث نبتكر الحياة التي نريد".

الانتحار

الانتحار هو أحد الأسباب المؤدية إلى الموت في الكثير من المجتمعات، وخاصة المجتمع الأمريكي، وهو في تزايد مستمر. وقد كتب الباحث كاليش (1985) أن انتحار المراهقين في تزايُد مستمر. وقد تبيَّن أن أكثر الأمراض المسببة للموت هي على التوالي: أمراض القلب، سرطان الرئة، التهاب القصبات الهوائية، سرطان البروستات، أمراض الشرايين، الانتحار، الحوادث، سرطان المعدة، سرطان المثانة، ابيضاض الدم leukemia.

إن العديد من أسباب الموت هذه مرتبط بالاختيار، كما يقول جيرالد كوري (1982). إذ إن الناس قد يرتكبون بعض أشكال الانتحار البطيء بإحجامهم عن ممارسة التمرينات والأنشطة وبعدم قيامهم بأعمال يشغلون بها أجسامهم وأجهزتهم الحيوية.

وبذلك فإن معدل الانتحار المتزايد يمكن اعتباره أعلى بكثير من المعدل الفعلي الذي بيَّنتْه الدراسات إذا ما أخذنا في الحسبان هذه الطرق المتنوعة التي يقصِّر فيها الشخصُ حياته بنفسه من حيث لا يدري.

ثم إن الكثيرين يعيشون ما يُسمَّى "نصف الموت" ؛ أي أنهم "أنصاف أموات" من جراء معاناتهم الاكتئاب، حيث لا تمتُّع بالحياة ولا أنشطة مطلقاً، بل همود وحزن وانغلاق. فكيف يعيش مثل هؤلاء؟

إن محاولي الانتحار ينظرون إلى الحياة على أنها "لا تطاق". فإذا كانوا يشعرون بذلك، فهم حتماً لا يملكون بدائل وخيارات. وبما أن فرص التغيير لديهم ضئيلة جداً فهم يقرون أن موتهم أفضل من مساعيهم وكدحهم لإيجاد معنى حين تنعدم إطلاقاً مثل هذه المعاني؛ إذ ذاك فإن الانتحار يغدو "الخيار النهائي". صحيح أن الكثيرين من الناس يقتلون أنفسهم وينهون حياتهم، سواء عن طريق الإهمال والتجاهل أو عن طريق انتهاج أفعال وسلوكيات محددة، إلا أن السؤال الأهم هو: كيف يريد الشخص أن يحيا ويعيش فعلاً؟

ماذا تُظهِر لك خبرتُك الشخصية بهذا الخصوص؟ ربما شعرتَ باليأس أحياناً؛ وقد تتساءل عما إذا كان من المفيد أن تحيا أصلاً. هل مررت بمثل هذا الشعور في الواقع؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي كان يجري في حياتك، فدفع بك إلى الرغبة في الموت؟ ثم ما هي العوامل التي حالت دون تلك الدوافع والأحداث والتأثير عليك سلبياً وأبقتك محتفظاً بقدرتك على الحياة؟

ما هي المعاني الضِّمنية التي ينطوي عليها الانتحار؟

ربما كان الانتحار تعبيراً عن صرخة استغاثة أخيرة: "لقد صرخت، ولكن لا أحد سمعني!" ربما كان فعلاً عدوانياً أو تعبيراً عن قسوة أو محاولةً مستميتةً لإسماع الصوت ولفت النظر: "لعل ذلك يدفع بعض الناس إلى الحديث عنِّي وإلى الشعور بالأسف على الطريقة التي عوملت بها." أو لعله تخلُّص من حالة يأس وإنهاء لحالة ألم مستديم.

هل تعرف شخصاً ما قد انتحر؟ عادة ما يَخبَر مَن هم على معرفة بشخص منتحر عدداً من المشاعر، مثل الذنب والغضب والخوف، التي لا تظهر في العادة ظهوراً واضحاً صريحاً: "ليتني كنت أكثر حساسية وحذراً وأشد اهتماماً." وربما يشعرون بذلك: "لم يدُرْ في خلدي أن هذا الأمر المهول يمكن له أن يحدث؛ وإني لأتساءل إن كنت فعلت كلَّ شيء في وسعي لمنعه". وإذا عبَّروا عن غضبهم في كلمات فلربما قالوا: "إنني غاضب عليك لأنك تركتني! لماذا لم تُعلِمَني كم كنت منعزلاً وتعاني الوحدة؟!" وربما يشعرون بالخوف: "إذا حدث ذلك له فربما أكون قادراً على فعل الشيء نفسه!"

مراحل الاحتضار والموت

لقد أصبح علم الموت thanatology من الموضوعات المهمة التي يدرسها علماء النفس والاجتماع والأطباء النفسيون والأطباء والباحثون في ميادين متنوعة. وتُعتبَر إليزابيث كوبلر روس الرائدةَ في الدراسات الحديثة حول الموضوع.

"إن فهمك لتلك الأمور قد يساعدك على تقبُّل الموت وعلى أن تكون أقدر على مساعدة الأشخاص الذين هم في أواخر حياتهم".

المراحل الخمس التي توصلت إليها الباحثة من خلال دراستها لمرضى السرطان تتوالى كما يلي:

  • مرحلة الإنكار Stage of Denial: ينكر الشخص خطورة حالته.
  • مرحلة الغضب Stage of Anger: يقول المريض لنفسه: "لماذا أنا بالذات؟" إضافة إلى الغضب الذي يُسقِطه على أيِّ شخص آخر.
  • مرحلة المساومة Stage of Bargaining: يحاول الشخص أن يقيم نوعاً من التوافق والتسوية مع القدر.
  • مرحلة الاكتئاب Stage of Depression: تحل مع ضعف الشخص ووهن طاقته حين يتطور المرض عنده، إذ يشعر بالخسارة الكبيرة المقبلة والنهاية المحتومة (اليأس).
  • مرحلة التقبل Stage of Acceptance: يتقبل الشخص حالته ومصيره وتنتهي المقاومة.

ما المغزى من ذلك؟

هناك اتجاه نحو الاهتمام المباشر بأفراد أُسَر المحتضرين، وذلك لمساعدتهم وتوجيههم إلى ما يجب عليهم القيام به لمساعدة المريض المحتضر.

مثال على ذلك تلك الحركات المهمة الناشئة التي تُسمَّى "حركة وبرنامج النزلاء" Hospice Movement and Program والتي بدأت في إنكلترا في العام 1967، ثم انتشرت من بعدُ في أوروبا وأمريكا.

إن مصطلح hospice استُعمِل في القرون الوسطى أساساً لوصف أمكنة انتظار المسافرين؛ أما لاحقاً فإن مثل هذه الأمكنة أُنشئت من أجل الأطفال اليتامى والمرضى والمعمِّرين العجَّز في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث اهتمت الطائفة الكاثوليكية بهؤلاء الأفراد لتقديم المساعدة لهم.

لقد لاحظ العالم كاليش (1985) أن "حركة النزلاء" الحديثة قد غيَّرت النظرة إلى الاحتضار من حالة "لا شيء يمكن فعله لمساعدة المحتضر" إلى حالة "أحرى بنا أن نفعل ما في وسعنا لتقديم أقصى درجات الرعاية والاهتمام له".

وهذا يتضمن مقابلة المرضى وأُسَرهم وكل مَن له علاقة بهم، وذلك للاهتمام بالضغوط النفسية والاجتماعية التي يمر بها المحتضر. وقد حقق هذا البرنامج نتائج إيجابية في خفض حالات القلق anxiety والتوتر والكثير من الأعراض البدنية التي كان يعانيها المريض أو المحتضر.

الحزن والأسى على الميت والانفصال وأشكال الافتقاد الأخرى

لقد بينت بعض الدراسات التجريبية والسريرية أن المراحل الخمس نفسها التي يمر بها المحتضر يمر بها كل إنسان حين يفتقد شيئاً ما أو يعاني الانفصال، كالطلاق مثلاً، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، فإن هناك مراحل يمر بها المقربون من المحتضر ومن الشخص الذي يعاني الافتقاد والانفصال.

فالحزن والتعزية والأسى تُعزى إلى كشف مشاعر الأسف والغضب والذنب لهذا الافتقاد ذي المغزى. وهذه الحالة ليست بسيطة في الواقع.

دَعْ نفسك تحزن وتأسى: هل عشت حالة افتقاد في سابق حياتك؟ وكيف تعاملت مع هذه الخبرة؟

من الأمور التي نفتقدها والتي تثير فينا مشاعر الحزن والأسى فقدان أحد أفراد الأسرة أو الأقارب أو أحد الأصدقاء أو الأشخاص المهمين في حياتنا، فقدان عمل ذي قيمة في نظرنا، الانفصال والطلاق، افتقاد أشياء مادية ذات قيمة خاصة في نظرنا، ترك مكان كنا نعيش فيه، فقدان الثقة في شخص ما والخيبة من إخلاصه.

فهل هذه الحالات جميعاً متشابهة من حيث استجابتُنا لنوع الافتقاد ونمطه؟ وهل سلكتَ سلوكاً ناجحاً حين مرورك بمثل هذه الخبرات؟ هل أغلقتَ دونك باب الحزن ولم تعانِ الأسى أبداً لأن موضوع الافتقاد كان مثيراً للتوتر؟ أم عبَّرتَ عن مشاعرك حيال الشخص المهم في حياتك فقط؟ ثم هل ما زلت تختبر هذه المشاعر كما كنت من قبل؟

إن العديد من الباحثين في المظاهر السيكولوجية للموت والافتقاد يوافقون على أن الأسى والحزن ضروريان. والأساس الذي تشترك فيه النظريات كلها حول الموضوع يشدد على السيرورة بعامة: المبادرة اللازمة للتحرك من مرحلة الاكتئاب إلى مرحلة التحسن والشفاء.

ومع أن بعض الناس قد يتعاملون تعاملاً ناجحاً مع المشاعر المتعلقة بالافتقاد فإن خسارة بعضهم الآخر قد تكون دائمة ويعيشونها باستمرار.

ففي حالة الأسى والحزن الناجحين، لا يتثبت بعض الناس على هذا الافتقاد ولا ينغلقون دون حالات الموت والافتقاد الأخرى. والشيء المهم الآخر في النظريات التي بحثت هذه الظاهرة هو أن جميع الناس يمرون بحالة الأسى والحزن بالدرجة نفسها، لكنهم لا يمرون جميعاً بالمراحل نفسها وعلى الترتيب نفسه.

الموت بالمعنى النفسي

عند الحديث عن الموت، وجد بعض العلماء (ومنهم ج. كوري) أن من الضروري توسيع مفهوم الموت، بحيث يشمل الموت بمعناه السيكولوجي والاجتماعي بطريقة ما.

فلعل الشيء الميت أو الذي يموت فينا هو شيء نريد إعادة إحيائه أو بعثه من جديد، أو شيء ما لا بدَّ أن يموت من أجل القيام بإحياء وإنماء جديدين. هناك أشياء تنمو ونريد لها أن تتقدم في العمر، في حين أن ثمة أشياء أخرى نسرِّع في موتها قبل أوانه الفعلي. إنك تتخلى عادة عن خبرة أمان الحياة والطمأنينة في كنف والديك، مع بقائها حيةً فيك، بحيث تنمو، وذلك من أجل الإمساك بزمام مرحلة الانفصال القادمة والعيش المستقل. وربما فقدتَ شيئاً ما ذا قيمة لك، حتى وإنْ كان متناقضاً مع نموك أو تطورك اللاحق.

سنتحدث الآن عن بعض الأشياء التي ندعها تموت فينا أحياناً وتلك التي نود بعثَها حية من جديد.

هل يمكن لك أن تكون عفوياً ومازحاً؟

هل الطفولة جزء من حياتك أم أنك دفنتها عميقاً في أغوار نفسك؟ هل يمكن لك أن تكون مرحاً وهزلياً، ضحوكاً وعفوياً؟ باعتبارنا "راشدين"، كثيراً ما نكون جديين للغاية، فاقدين لقدرتنا على الضحك.

إذا وجد الشخص نفسه واقعياً وموضوعياً في الاعتراف بذلك فإن من الصعب عليه أن يكون مرحاً ضحوكاً؛ وعليه أن يتساءل عن الرسائل الداخلية التي تمنعه من الانطلاق: هل يقمعها الفرد تجنباً للأخطاء وخوفاً منها؟ هل يخشى أن تُطلَق عليه صفةُ "السذاجة" أو أن يقابله الآخرون بالاستهجان؟ إن في إمكان الشخص أن يتحدى هذه الرسائل الداخلية التي تقول: "لا تفعل"، "افعل"، أو "يحسن بك ألا تفعل"، فيجرب سلوكاً جديداً يتحلى بصفات البساطة والمرح والعفوية؛ وفي إمكانه بعدئذٍ أن يحدد إنْ كان يرغب في السلوك الجديد الذي يشبه سلوك الأطفال في بعض الأوقات أو في أكثرها.

ومهما يكن قرار الفرد فإن ذلك يتوقف عليه بالذات، ويجب أن يصدر عنه صدوراً أصيلاً بدلاً من أن يكون من بقايا الماضي.

هل تعيش مشاعرك وتحياها؟

في إمكاننا أن نكبت الكثير من المشاعر فينا ونُميتَها، سواء كانت مفرحة أو مؤلمة؛ إذ يمكن لنا أن نقرر أن تلك المشاعر تتضمن خطر مكابدة الألم وأن من الأفضل لنا أن نفكر في المضيِّ قُدُماً في طريقنا في الحياة.

وفي حال اختيارنا كظم مشاعر الاكتئاب والحزن، غالباً ما نكبح قدرتنا على التمتع والابتهاج أيضاً.

إن الانغلاق على بساطتنا وضعفنا يعني الانغلاق على قوَّتنا أيضاً. يمكن للفرد أن يقيِّم إحياءه لحالته الانفعالية ولمشاعره عن طريق الإجابة عن الأسئلة التالية:

  • هل أدع نفسي أبكي إذا شعرت برغبة في البكاء؟
  • هل مررتُ بحالة ابتهاج غامر ووَجْد؟
  • هل أجيز لنفسي البقاء قريباً جداً من شخص آخر، لصيقاً به؟
  • هل هناك بعض المشاعر التي أكظمها وأكتمها؟
  • هل أخفي مشاعر عدم الأمان والخوف والاتكال والغضب والملل؟

هل أنت حي في علاقاتك؟

إن لعلاقاتنا مع الناس المهمِّين في حياتنا طريقها الخاص إلى الضعف والانحلال أو الخمود. من السهل عليك أن تكوِّن علاقاتٍ مع غيرك تتخذ وجهةً روتينيةً واعتياديةً، بحيث تفقد كلَّ إحساس بالدهشة أو بالعفوية.

هذا النوع من التمويت وفقدان الحيوية يشيع شيوعاً خاصاً في بعض العلاقات الزوجية؛ لكن من شأنه أن يؤثر في علاقاتنا بعامة وأن يُضعِفها أيضاً. وعندما تنظر إلى العلاقات المهمة ذات المغزى في حياتك، عليك أن تفكر في كيفية إحيائها فيك وتفعيلها في الآخر.

هل تعطي لكلِّ شخص مجالاً للنمو والتطور والارتقاء؟ وهل تستثير العلاقةُ طاقتَك وتحفز نشاطَك في الحياة؟ هل تعيش علاقة راسخة ومريحة؟

إذا شعرت أنك لم تحصل على ما تريد من علاقة مع أصدقاء أو من علاقة حميمة، لا مناص لك من أن تتساءل: ماذا في وسعي عملُه لإحيائها ودفعها دفعاً حيوياً؟ إن مطالبة الشخص بهذا من الأفراد الذين يعقد معهم علاقات ذات مغزى قد يبعث فيهم أيضاً حياةً جديدة.

إلى أية درجة يعيش الشخص حياته؟

لقد بيَّنت البحوثُ السيكولوجية أن بعض الناس لم يقيِّموا تقييماً واقعياً الدرجةَ أو الأوقاتِ التي يعيشون فيها حياتهم فعلاً.

فتخيل أنك واحد من أولئك الناس الذين سيطر عليهم الروتين والملل يومياً ولم يقدِّروا نوعية حياتهم وطبيعتها حق قدرهما. هل قيل لك إنك في غالبية أوقاتك لا تعيش حياتك؟ إن الإنسان يبدأ بالنظر إلى ما فقده وإلى الأشياء التي يجب أن تكون على غير ما هي عليه الآن.

فللنَّظر في الفرص المختلفة والنقاط الجوهرية ذات المغزى في الحياة أهمية كبرى في عملية التقييم هذه. فقد يشعر الشخص بأن عليه أن يكف عن كثير من الأشياء "العقيمة" في حياته قبل أن يتداركه الوقت.

إن واحداً من الأمور التي ينبغي على الإنسان أن يفكر فيها جدياً ويتخيلها هي قضيةُ موته، بما يشمله من جنازة ومأتم وتوقُّع لما سيقوله الناس بعد موته أيضاً.

ويمكن للشخص أن يدوِّن ذلك كلَّه تدويناً منهجياً على الورق، بما يتيح له أن يتطلع إلى حياته الحالية وإلى ما يرغب أن تكون عليه.

من هنا نقول إن تقبل الموت يرتبط ارتباطاً وثيقاً باكتشاف معنى الحياة. فذلك يتيح لنا أن نتعلم كيف نعيش بحق. وهنا نتذكر قول ابن سينا: "ليس المهم أن نعيش حياة طويلة، بل أن نعيش حياة عريضة".

المصدر: نشرت هذه المقالة في مجلة بلسم.

إشــــارة:

أعدت هذه المادة من بحث طويل للدكتور: محمد قاسم عبدالله الاختصاصي في الصحة النفسية، المدرس في كلية الآداب بجامعة حلب، وعضو الجمعية الأوروبية لعلم نفس الشخصية، تحت عنوان: "بسيكلوجية الخوف من الموت".