دائما يعيش في حالة من التيه، لم يستعذب جمال اللحظة، يسرح في الماضي كثيرا، يسوح كثيرا في مرايا الخيال، وعندما أتكلم معه أو أوجّه له سؤالا أو استفسارا عن شيء ما، لا يجيبني، كأنه لا يسمعني، فأكرر سؤالي وطلبي وحاجتي بصوت أعلى، يتنبّه الى صوتي وكلماتي، يطلب مني أن أعيدها عليه، ثم يأتي جوابه بلا معنى، فغالبا ما يكون الجواب وعدمه في كفة واحدة من ميزان الفعل، أي لا تأثير يذكر لجوابه، ويستمر في صحراء التيه.
مكبل بالصمت في أكثر أوقاته، حاول معه أهله، أصدقاؤه، وأنا منهم، أردنا أن نستعيده من رحلة الخيال والسياحة الدائمة في البعيد البعيد، لكنه متشبث بما يسميه (الغربة في أحضان الوطن)، أسباب كثيرة دفعته الى هذا الاحساس أو الشعور، إنه منطوٍ على نفسه، لا يتحدث مع الآخرين ولا يتفاعل معهم، وليس له اهداف واضحة ولا هوايات، وقلما تجده منشغلاً بشيء يدوي، حتى الطعام الذي يتناوله مرة واحدة في النهار يأخذه خفية.. أنا أقرب الاصدقاء له، لم أره يتناول الطعام إلا نادرا، وعندما أسأله يلتزم الصمت.
فهل هي حالة الاهمال التي تعرض لها من العائلة والمجتمع والدولة؟ انه يعيش حالة الغربة في أقصى درجاتها مع انه في قلب الوطن، بين أهله وأقرب الناس إليه. سألت أحد المختصين، وهو طبيب نفسي، عن مثل هذه الحالة، وهل هي مرض عضوي أم نفسي؟ فأجاب هي ليست مرضا عضويا، هناك في أعماق النفس مواقف تبقى راسخة في عقل وذاكرة الانسان، إنه التقصير بحق انسانية الانسان وكرامته، تجعله يلوذ بنفسه ويبتعد عن الجميع.
لا يجد راحة بين الناس، لا يميل الى الكلام، يكره العمل والحركة، محبط، غائب في عجز واضح، فحالة الاغتراب التي يشعر بها الانسان تجاه المحيط الذي يعيش فيه، ليست وليدة اليوم، وإنما كان الانسان ولا يزال يواجه الوجود بكثير من الغموض، لكنه غالبا ما يبحث عن الحلول المناسبة لتفسير الظواهر الغامضة التي تواجهه، ويبحث ايضا عن سبل الحلول الممكنة.. اذن هاجس الغربة يعيشه الانسان بسبب علاقته مع الوجود والكون، ويحاول من خلال الايمان الحقيقي، واقامة علاقة جوهرية مع الاديان، والمضامين الانسانية، حماية نفسه من الاحساس الموجع بالغربة، ولعل جل الاسباب التي تدفع بالانسان الى الاحساس والشعور بالاغتراب، تكمن في طرائق العيش التي يحصل عليها في محيطه الاجتماعي، وهي في مجملها لا تعبأ بكرامة الانسان، وقد تدفع به الى الشعور بالمهانة، وضآلة القيمة والكرامة التي تشكل العمود الفقري لقيمة الانسان وتعلقه بالوطن والمحيط الذي يعيش فيه.
علاج الإحباط
كثيرون لا يتفاعلون مع الآخرين، ولا يعرفون ما هي الغاية من وجودهم في الحياة، يعيشون بشكل آلي، وعندما تسألهم لماذا، كثيرون منهم يجيبون بأنهم غرباء، لا يشعرون بالاندماج مع المجتمع بسبب اهماله لهم. فالغربة في التعريف المباشر لها، هي ابتعاد عن الحاضنة الاجتماعية والمكانية الأولى، لاسباب قسرية أو ضغوط مختلفة، اقتصادية أو سياسية في الغالب، وقد تكون غربة مكانية داخل الوطن، اي من مدينة الى اخرى، مع اختلاف المحيط الاجتماعي، وربما خارج الوطن الى بلد ومجتمع آخر، ولكن هناك أشكال اخرى للغربة! هل يدل هذا على انواع اخرى للغربة، قد تختلف عن الغربة المكانية؟ إن الانسان قد يكون معرضا لحالة الاغتراب، والشعور بالعزلة، والمعاناة من عدم الانسجام مع محيطه، حتى لو كان يعيش في قلب الوطن، وحتما توجد اسباب محددة تقف وراء مثل هذا الشعور، كلها تتمخض عن حالة الانطواء بسبب الاهمال الذي يتعرض له الفرد من الحاضنة الاجتماعية.
علما أن حالة الاغتراب لا تعني العيش خارج حدود الوطن الأم، فقد يكون الانسان غريبا في بيته! فهناك جانبان متناقضان في هذا النوع من العلاقة بين الانسان والغربة، الجانب الاول، الغربة خارج الوطن، والجانب الثاني الغربة خارج الوطن، والمعيار الذي يقارن بين فداحة هذه الغربة أو تلك هو الغنى، أو المال، فاذا توافر المال في الغربة، شعر الانسان بأنه محمي ومصان بقوة المال، وهو ليس بحاجة الى ان يمد يده لأحد. إن توافر الأموال اغنته عن الحاجة وهو في الغربة، لذلك فإن هذا الأمر سيمنحه شعورا بالتوازن والرضا، قد لا يجده حتى لو كان يعيش في ارضه وبين اهله! وكما ذكر المعنيون بهذا الأمر فإن جل الاسباب تتركز على طريقة الإهمال التي يتلقاها الفرد من محيطه العائلي والاجتماعي الأوسع.
لذلك تسعى الأديان الى رفع مستوى التراحم بين الناس وتثبيت الاخلاقيات الانسانية العالية، وكذلك نلاحظ حرص القوانين الوضعية، والتعاليم السماوية، والنصوص الفلسفية التي تخص حياة الانسان وعلاقاته، على اهمية احترام القيمة الانسانية للفرد، من خلال عدم تعريضه للفقر والاحتياج، والمحافظة على حقوقه وكرامته، خصوصاً من الأنظمة السياسية المتخلفة التي غالبا ما تكون سببا رئيسيا في هدر كرامة الانسان، وهذا يتسبب في النقص النفسي الذي يعاني منه الفرد ويتحول الى شعر مزمن بالغربة حتى بين الأهل، وهي اقسى انواع حالات الاغتراب.
أهمية العيش بكرامة
من أهم الشروط التي تحفظ توازن الانسان النفسي، هو شعوره بصيانة كرامته، وعدم التجاوز على قيمته الانسانية، ويبدأ هذا الأمر في أوائل العيش في الأسرة، حيث يتم غرس قيم الاحترام في ذات الانسان، لذلك لا يمكن للانسان أن يعيش متخليا عن كرامته حتى في بلاد الغربة، لاسيما اذا كان محميا بالمال، بمعنى اذا كان غنيا، يمكنه أن يعيش بطريقة تصون له كرامته، وتحمي قيمته الانسانية، بقوة المال، لانه سوف يكون قادرا على توفير كل عناصر الاحساس والشعور بوجود الحاضنة الاجتماعية والمكانية اذا كان غنيا، على العكس من وجوده في الوطن الام برفقة الفقر! الذي سيجعله معرضا للشعور بحالة اغتراب قاسية، فهو وإن كان يعيش في ارضه ووطنه الفعلي مع قومة واهله وذويه، إلا انه بسبب الفقر سوف يعيش في حاضنة غريبة قاسية، لا توفر له الشعور بالأمان والتقدير والاكتفاء، فضلا عن فشل الوطن في تحقيق ذات الانسان، وجعله نهبا للافكار الانعزالية وحالات الانطواء والعيش في اعماق الذات بعيدا عن الاندماج مع الذوات الأخرى.
وهناك سبب آخر أساسي يتمثل بالفقر، فهو سبب اساسي يعمل بقوة عل تدمير انسانية الانسان، لاسيما اذا كان النظام السياسي أو نظام الدولة والمجتمع عموما، لا يعير اهتماما كافيا للانسان، ولا يهتم الا بمن يقف الى جانبه في تعضيد حكمه وحماية عرشه من السقوط، عند ذاك ليس هناك مفر من محاصرة الاغتراب للانسان، وليس له خلاص الا بالبحث عن حاضنة اخرى حتى لو كانت غريبة وبعيدة عنه، كونه يشعر بالمهانة والدونية والانحطاط وهو في وطنه وبين اهله. إذاً ما هو المبرر لبقائه في محيط لا يحمي كرامته ولا وجوده! في هذه الحالة لن يكون هناك مكان للفرد سوى ذاته، فيقبع في أعماقها منعزلا منطويا، وهذا ما يتطلب التصدي لقضية صيانة كرامة الانسان وحمايتها منذ الطفولة من قبل الأهل والمدرسة والمجتمع بأكمله.