تناقلت علم الطب أسر عرفت في تاريخ الطب فكان منها مثلا أسرة بختيشوع في أوائل الدولة العباسية، وأسرة زهر في الأندلس، وسنان بن ثابت في بغداد، وغيرها من الأسر، ومن هذه الأسر، أسرة بني ابن أبي اصيبعة، حيث عرفنا منها خليفة، وابنيه قاسم وعلي، وحفيده أحمد بن قاسم، وهو أشهرهم ومؤلف "عيون الانباء في طبقات الأطباء" وهم من سلالة يونس بن أبي قاسم بن خليفة الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، وهم من ولد سعد ابن عبادة.
اقرأ أيضاً: تاريخ الطب عند العرب والمسلمين بين النظري والتطبيقي
حياة ابن أبي أصيبعة
اسمه موفق الدين أبو العباس أحمد بن قاسم بن خليفة مولده في دمشق سنة (٦٠٠هـ أو١٢٠٣ م)، وكُنِّيَ بأبِي العبَّاس،ثم أطلِقَ عليه لقبُ جدِّه ابنُ أبِي أصيبعة، طبيب مشهور أيضاً، وموفق الدين أشهرُ أفراد أسرته، ولد في أيام الملك العادل (١١٩٦-١٢١٨م)، أخ صلاح الدين وقد تتلمذ على كثير من أئمة الأساتذة في دمشق والقاهرة من بينهم: والده قاسم، وعمه رشيد الدين علي، والشيخ مهذب الدين عبد الرحيم علي الداخور، والحكميم عمران بن صدقة، والشيخ رضي الدين الرحبي وسيف الدين التغلبي الأسدي، ورفيع الدين الجليلي، وفضل الدين الخونجي وسديد الدين أبو منصور. وعمل في البيمارستان العتيق في دمشق، وكان من أساتذته ابن البيطار العالم النباتي الشهير ومؤلف "جامع المفردات"، وكان يتردد كذلك على البيمارستان الناصري فيقوم بأعمال الكحالة، وفيه استفاد من دروس السديد ابن أبي البيان، الطبيب الكحال ومؤلف كتاب الأقراباذين المعروف باسم الدستور البيمارستاني. وقد أوكل الحكام الأيوبيون لأطباء دمشق الذهاب إلى مصر لتعليم الطب فيها ومنهم ابن النفيس ورضي الدين الرحبي، ويخلو كتاب ابن أبي أصيبعة من ذكر معاصره ابن النفيس لسبب غير معروف، بالرغم من أنه كان مديراً لقسم الرمد في المستشفى تحت إمرة ابن النفيس.
وقرأ علي سديد الدين أبي الفضل داوود بن أبي البيان سليمان بن أبي الفرج، كتابه "الاقربازين" وصححه. ومعه تعاليق على كتاب العلل والأعراض الجالينوس. وعالج المرضى بالبيمارستان الناصري بالقاهرة وأعجب ابن أبي أصيبعة لدقته في التشخيص والعلاج.
وقد انتقل ابن أبي أصيبعة من القاهرة الى صلخد في جبل العرب جنوب الشام في ربيع الأول (تشرين الثاني سنة ١٢٣٦م)، وانخرط في خدمة صاحبها الأمير عز الدين ايبك المعظمي الذي كان قد أرسل في طلبه، وكان قد بنى الخان سنة (١٢١٤م) والبرج في قلعة صلخد سنة (١٢٢٠)، وقطرة ومئذنة في جامع البلدة عام (١٢٢٢م).وقد توفي أحمد بن أبي أصيبعة فيها.
اقرأ أيضاً: تاريخ طب العيون عند العرب
مؤلفات ابن أبي أصيبعة
وضع ابن أبي أصيبعة كتابه المشهور "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" في تلك الفترة، ولا يزال كتابه حتى اليوم مرجعاً في كثير من أمور الطب في العصور الغابرة، ومثلاً صادقاً لألمع الأطباء العرب القدامى، وآدبهم، ومفهومهم لرسالة الطب والطبابة، وألف ثلاثة كتب أخرى، ولكنها لم تصل إلينا، وهي: كتاب "حكايات الأطباء في علاجات الأدواء"، وكتاب "إصابات المنجمين"، وكتاب "التجارب والفوائد" الذي لم يتم تأليفه.
و"عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، من أهم مراجع تاريخ الطب عند العرب. فقد ترجم ابن أبي أصيبعة في جزءيه لعدد من الاطباء يزيد على خمسمئة طبيب (منهم ٤٠٠ طبيب عربي)، وذكر أخبارهم مع أشعارهم ونوادرهم، فأتى كتابه من أمتع ما كتب عن أطباء العرب وأصدق ما وضع، مرآة جملية وافية عن واقع الطب العربي.
اقرأ أيضاً: صفات الطبيب في كتب التراث الطبي العربي الإسلامي
وجعل أول باب في الكتاب تاريخ نشأة الطب. وقد بدأ ابن أبي أصيبعة بمحاولة الإجابة عن أصل مهنة الطب، وحاول الإجابة بطريقة أهل عصره فيعدد خمسة أسباب لنشأة مهنة الطب:
- عن طريق الوحي والأنبياء والأصفياء.
- الرؤيا الصادقة.
- الاتفاق والمصادفة.
- أن يحصل عن طريق مشاهدة الحيوانات.
- أن يكون حصل بطريق الإلهام كما هو لكثير من الحيوانات.
ويبدأ ابن أبي أصيبعة بالأطباء اليونان، الذين تعلم العرب المسلمين منهم، ولم يكن التاريخ قبل اليونان معروفاً للمسلمين، ويقول: "قد اتفق كثير من قدماء الفلاسفة والمتطببين على أن اسقلابيوس، كما أشرنا إليه أولاً، هو أول من ذكر من الأطباء وأول من تكلم في شيء من الطب عن طريق التجربة، وكان يونانياً".
ثم تطرق إلى تاريخ الطب اليوناني، فأطباء فجر الاسلام، والأطباء السريان، ثم أطباء العراق وديار بكر، ثم أطباء فارس، والهند، ومصر، وأخيراً توسع بذكر أخبار أطباء الشام.
وقد راجع مخطوطات هذا الكتاب النفيس المستشرق الألماني الشهير مولر، الذي دعا نفسه امرؤ القيس بن الطحان، وطبعه بالمطبعة الوهابية بمصر (سنة ١٨٨٢)، وتم الطبع في (٦ آب ١٨٨٣) (أول شوال ١٣٠٠هـ).
اقرأ أيضاً: تطور مفهوم الطب عبر العصور
وفي الكتاب من الفوائد والحكم ما لا يحصى ومن الأخبار القديمة ما لا يستغنى، فقد جمع ابن أبي أصيبعة فيه ما وجده في الكتب الطبية والتاريخية الموجودة في ذلك الوقت والمعلومة الآن، ويقال في "معجم أدباء الاطباء ج1-ص52" أن الذي أعانه على تأليف هذا الكتاب هو مكتبة صديقه عمران بن صدقة والأسدي صاحب "أبكار الأفكار"، حتى أن كتابه يغني عن غيره، وكثيراً ما يزيد عليه فوائد وتعليقات من عنده، مما لا يوجد في الكتب قبله.
يقول ابن أبي أصيبعة في مقدمة كتابه: "وأما هذا الكتاب الذي قصدت حينئذ إلى تأليفه، فإني جعلته منقسماً إلى خمسة عشر باباً، وسميته عيون الأنباء في طبقات الأطباء، وخدمت به خزانة المولى الصاحب، الوزير العالم العادل، الرئيس الكامل، سيد الوزراء، ملك الحكماء، إمام العلماء شمس الشريعة، أمين الدولة، كمال الدين، شرف الملة أبي الحسن بن غزال بن أبي سعيد أدام الله سعادته وبلغه في الدارين إرادته”، فأصبح كتابه أقضل ما ألف في هذا الموضوع إلى يومنا هذا، فهو أثر جليل، وعمل جبار لا يستغني عنه أحد من المؤرخين، فهو مرجع شامل مفصل يذكر فيه نكات أدبية، ونوادر، وأبيات شعر، وقصائد، مما يجعل قراءة الكتاب ملذة حتى لعامة الناس من غير المتخصصين في التاريخ، وكذلك تتجلى فيه أمانة الطبيب، ودعة الكحال، وتنعكس من خلاله أخلاق المؤلف الحميدة، وثقافته الرفيعة، وعلو شأنه في العلوم والمعرفة، وحبه الدائم لتقدم العلوم الطبية في جميع فروعهان ونبل أصله.
فالكتاب حقاً عيون للأنباء، كما سماه، وتتدفق منه المعلومات التاريخية النيرة دون أن تنضب، وكل ذلك رفع أبن أبي أصيبعة إلى مصاف العلماء والأطباء المؤرخين الأدباء المرموقين، ولم يكتب في الموضوع غيره في زمانه، فكان رائداً في تاريخ الطب.
اقرأ أيضاً: نحو تخصص إعلامي أفضل للأطباء