كان الكي والفصد والحجامة من أهم الممارسات الجراحية التي مارسها العرب، ومع أن هذه الطرق الثلاث تبدو محرمة في الطب الحديث، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن الجراحين العرب بنوا خبرتهم وممارساتهم ليس فقط على ما نقلوه من الأمم القديمة في المنطقة، بل أيضاً على التجربة، وهم يذكرون هذا في كتبهم، ولا شك أن هذه الطرق كانت تؤدي في تلك الأيام وظيفة هامة في الشفاء، ولا يأتي استعراضها في باب الاستفادة منها في أيامنا بقدر ما يأتي في نطاق إلقاء الضوء على التجربة العربية، بل على الأسلوب العلمي الذي اتبعوه، ولا بد أن يعجب الإنسان في كل مرة عندما يقرأ "وهذا أثبتته التجربة".

الكي

يتوخى الزهراوي الدقة المتناهية في ممارسة الكي: "إلا أنه لا ينبغي أن يتقدم على ذلك إلا من ارتاض ودرب في باب الكي دربه بالغة، ووقف على اختلاف مزاجات الناس وحال الأمراض في أنفسها، وأسبابها، وأعراضها، ومدة زمانها".

وينفع الكي لكل مزاج، ولكن يفضل الأمراض الباردة الرطبة، ويحدد الزهراوي سر الكي بأنه لا يتعدى فعله العضو الذي كوي، ولا يضر بعضو آخر متصل به إلا ضرراً يسيراً.

ويحدد الزهراوي زمان الكي فيقول أنه ينفع في كل زمان، أما نوعية المعدن فيفضل الزهراوي الحديد: "وقد ذكرت الأوائل أن الكي بالذهب أفضل من الكي بالحديد، وإنما قالوا ذلك لاعتدال الهذب وشرف جوهره، وقالوا أنه لا يتقيح موضع الكي، وليس ذلك والكي به أحسن وأفضل من الحديد كما قالوا إلا أنك إذا أحميت المكواه في النار من الذهب لم يتبين لك متى تحمى على القدر الذي تريد كحمرة الذهب ولأنه يسرع إليه البرد وإن زدت عليه في الحمى ذاب في النار، فلذلك صار الكي بالحديد عندنا أسرع وأقرب من الصواب".

والزهراوي في هذا الاقتباس إنما يفعل مثل أنطونيوس في مسرحية شكسبير فبعد أن يوافق الأقدمين على أن الذهب أفضل يوضح لماذا يختار الحديد، ويبقى الباب مفتوحاً حتى لا يحمل عليه أحد بحجة مهاجمة العلماء الأقدمين، أما ابن القف فيحدد أهم سبب لاستعمال الكي: "الكي علاج بالغ لمنع الفساد ولذلك يستعمل، حيث لا تفي الأدوية بما يحتاج إليه في التخفيف، وآلة الكي تتخذ من الحديد، ومن النحاس، ومن الفضة، ومن الذهب، وأجودها جميعاً الذهب، لا لأنه جوهر نفيس غالي الثمن، بل لأن التجربة قد شهدت بتوقيته للعضو بحيث أنه لا يعقبه فساد ولا عفن كما يعقب غيره، وإن كان في هذا خلاف على ما سنذكر فيما بعد".

وابن القف أكثر تحفظاً من الزهراوي في رأيه، ويتابع ابن القف (ويقصد بالكي أمور خمسة):

  • أنه يمنع انتشار الفساد لأنه يضيق مجاري المادة وربما سد بعضها.
  • ليمنع مادة معتادة الانصباب من الانصباب إلى عضو من الأعضاء.
  • لتسخين عضو قد فسد مزاجه كما يفعل بالمعدة الرطبة فإن إلا رطب مما ينبغي يجعل العضو أبرد مما يبغي.
  • لحبس دم قد أفرط خروجه وجريانه فإنه يحدث على فوهة المجرى خشكريشة تحبس الدم الخارج.
  • لذوبان لحم فاسد، قد عجزت الأدوية عن ذوبانه. ثم يحدد كيفية كي المكان الباطن كالأنف، والفم، والمقعدة، والرحم: "والطريق إلى ذلك أن تتخذ لك أنبوبة من خشب، وتطلى بمغرة مجبولة بماء ورد، ويجعل ثخانة المكوى دون نضاء الأنبوبة، وتدخل ويجعل طرفها على موضوع الكي، ثم يدخل المكوى بحيث لا يصيب الأنبوبة، ويكوى به الموضع حتى لا يبقى فيه شيء من الفساد... ويتوقى دائماً أن يصيب شيء من الأعصاب والعضلات والأوتار".

وبينما يتوسع الزهراوي في شرح الكي فيفرد له باباً من ثلاثة في الجزء الثلاثين من كتاب التصريف في 56 فصلاً، ويصور المكاوي المختلفة، ويخترع جديدة، فإن ابن القف في كتابه العمدة في صناعة الجراح يذكر الكي في الفصل العاشر من الجزء الأول حوالي صفحة ونصف، ولا يفرز له ابن سينا في القانون أي باب وإنما يذكره عند كل حاجة.. ويذكره الثلاثة في علاج الفتق في أماكن مختلفة، ويستعمله الزهراوي في أمراض مختلفة: "من الناصور الذي يكون في المقعدة، وفي كي المسامير، وكي التفرق وعرق النسا، وفي علاج الشقيقة، وأوجاع الأذن والعين، والنسيان، والخنازير، والإسهال، والبتر، وبط ورم الكبد، بالإضافة إلى كي النزف الحادث من قطع الشريان"، وإذا كان هناك شيء من المبالغة في استعمال الكي بالنسبة للطب الحديث فهو لا يمنع من الاعتراف بأن كثيراً من الاستعمالات القديمة ما زالت تستعمل في الطب الحديث، ولكن بأساليب حديثة كهربائية، وتخدير بتسمية مختلفة.

الفصد

لا يذكر الزهراوي أي شيء عن الفصد في الجزء الثلاثين من كتابه "التصريف" الذي يتحدث عن الجراحة، بينما يقف ابن القف طويلا عند الفصد وكذلك ابن سينا في القانون.

ويعرف الفصد بأنه إخراج كمية من الدم من أحد الأوردة أو الشرايين، ويعرفه ابن القف بأنه "تفرق اتصال إرادي ويحدد استعمالاته" في:

  • زيادة الأخلاط في الكمية.
  • زيادة في كمية الدم.
  • زيادة الكيفية إلى جانب الحرارة.

ويقول ابن سينا: "أما أن يفصد لكثرة الدم، وأما أن يفصد لرداءة الدم، وأما أن يفصد لكليهما".

ويحدد ابن القف وابن سينا شروط الفاصد:

  • أن يكون عارفاً بالتشريح ليعرف مسالك الأوردة وأوضاعها وما يجاورها.
  • أن لا يفصد في مكان مظلم.
  • يعرف كيف يضع المبضع وأن تكون من مباضع كثيرة: "يجب أن يكون مع الفصاد مباضع كثيرة ذات شعرة وغير ذات شعرة".
  • أن يوسع في الشتاء ويضيف في الصيف: "اعلم أن الفصد له وقتان، وقت اختيار ووقت ضرورة، فالوقت المختار فيه ضحوة بعد تمام الهضم والنقص، وأما وقت الاضطرار فهذا الوقت الموجب الذي لا يجوز تأخيره ولا يلتفت فيه إلى سبب مانع، واعلم أن المبضع الكال كثير المضرة فإنه يخطئ فلا يحلق".
  • يكون المبضع نقياص من الصداء والخشن.
  • أن يطيل زمان جسّ العرق لإظهاره: "واجتهد أن تملأ العرق وتنفخه بالدم وأن استعصى فحله وشده مراراً وامسحه وأنزل في الضغط واصعد حتى تنبهه وتظهره".
  • الفصد طولاً أو عرضاً حسب الحاجة إلى سرعة الالتحام.
  • أن يشد العضو عند الفصد بعصابة معتدلة العرض دقيقة.
  • تكون معه أدوية قطع الدم، وأن تكون معه كبة من جز وحرير ومقيا من خشب أو ريشة، وأن يكون معه وبر الأرنب ودواء الصبر والكندر ونافجة المسك ودخان الكندر ودم الأخوين والصبر المر، والقلقطار والزاج.
  • الاهتمام بالنظافة في موضوع الفصد وأثناء العمل.

اقرأ أيضاً: أبرز إنجازات العرب في علم التشريح

شروط المفتصد

يشترط بالمفتصد ما يلي:
  • احتمال القدرة.
  • بعد تمام هضم المعدة ودفع الفضلات البرازية والهضمية.
  • ويحذر عند خلو المعدة وعقب الجماع فيمن كان ضعيف الكبد مترهل المسنة، المزاج الحار السمين سمناً شخصياً، كثير الصوم، ومعتاد استعمال أغذية حقيقية.
  • في الأوقات الحارة جداً والبادرة جداً.
  • في وقت الغضب والحل وجريان دم الطمث.
  • مراعاة اختلاف الأشخاص: "فمن الناس من يحتمل ولو في حمأة أخذ خمسة أو ستة أرطال من الدم، ومنهم من لا يحتمل في الصحة أخذ رطل، لكن يجب أن تراعي أحوالاً ثلاث أحداها حصة الدم واستوخاؤه، والثانية لون الدم، والثالثة النبض، فإن صغر النبض فاحبس".

موضع الفصد

يكون الفصد عادة في الأوردة إلا فيما ندر: "وأما الشرايين فإن فصدها ينبغي أن لا يقدم عليه إلا بعد الضرورة العظيمة مع توق وحذر".

ويحدد ابن القف أربعة وثلاثين وريداً، منها اثنا عشر في الرأس، واثنا عشر في اليد، وعرقان في البطن، وثمانية عروق في الرجلين.

استطبابات الفصد

يحدد ابن سينا: "المنهى لهذه الأمراض هو مثل المستعد لعرق النسا والنقرس الدموي وأوجاع المفاصل الدموية والذي يضربه نفث والمالنخوليا مع فور دم الخوانيق ولا ورام الأحشاء وأرق الحار والمنقطع عنهم دم البواصير كانت تسيل في العادة والمحتبس عنهن دم حيضهن، والذين بهم ضعف في الأعضاء الباطنة مع مزاج حار"، ويحدد ابن القف أمراض أكثر في الرأس، والعينين، وفي كل الجسم تقريباً، ولا زال الفصد يستعمل في أيامنا هذه لعلاج ارتفاع ضغط الدم، كما يعتبر التبرع بالدم أيضاً عملية فصد لزيادة نشاط خلايا الدم الأساسية.

موانع الاستطباب بالفصد

يمنع الفصد في الحالات التالية:

  • لا يفصد في يوم حركة المرض.
  • الحبلى والكامن لا تفصدان.
  • ليس كلما ظهرت علامات الامتلاء بل ربما كان الامتلاء من أخلاط نية وكان الفصد ضاراً جداً.
  • أن يجتنب الفصد في الحميات الشديدة الالتهاب.
  • إن كان النافض قوياً فإياك والفصد.
  • عند الوجع الشديد، وبعد الاستحمام، وعقب الجماع، وبعد الامتلاء من الطعام، وصاحب التخمة.
  • في السن القاصر على أربعة عشر، وفي سن الشيخوخة.
  • الأبدان شديدة القضافة، والشديدة السمنة، والمتخلخلة، والبيض المترهل، والصغر القديمة الدم.

يؤكد ابن سينا وابن القف على ضرورة استعداد الطبيب الفاصد للمضاعفات مثل النزيف الكثير، والذي يوجب البتر، أي ربط العرق، أو إيقاف النزيف بالأدوية، كما يؤكدان على نظافة الأدوات والموضع.

الحجامة

وهي جرح الجلد: "والحجامة إنما تجتذب الدم من العروق الرقاق المبثوتة في اللحم، والتحجم نوعين، بشرط وبلا شرط، والتي يشرط (بجراحة) على نوعين، بنار وبغير نار، ولنذكر أولاً أحكام التي بالشرط، وهي التي الجرائحي محتاج إليها، فتقول: المادة الدموية المراد إخراجها لا تخلو أن تكون مستولية على الظاهر أو على الباطن أو عليهما أو فيما بينها، فإن كان الأول فأخرجهما الحجامة وإن كان الثاني والثالث فأخرجهما بالفصد وإن كان الرابع فبالعلق، والعلة في هذا أن الطبيب خادم للطبيعة بمعنى أنه يحذو حذو أفعالها والمواد البدنية أجسام سيالة ليس شأنها الاندفاع إلى جهة الاندفاع والدافع إما الطبيعة البدنية وإما الطبيعة الخليطة، والحركة الأولى للمادة وتسمى قسرية والثانية تسمى طبيعية، فإذا دعت الطبيعة المادة إلى جهة من الجهات أو مالت هي بنفسها إلى تلك الجهة فالواجب أن تعان الطبيعة على إخراجها ويخفف مقدراها وذلك بفتح مجاريها أو بشرط الجلد ثم وضع ما يعين على بروزها وهو المحاجم بسبب ضرورة الخلاء فهذا بيان إلى الحجامة المذكورة".

ولعل تحليل ابن القف هو التحليل الفلسفي للطب في ذلك الزمان المتأثر بالطب الإغريقي، وهو أن يعين الطبيب الطبيعة في عملها في كل شيء، وهذا لا ينطبق فقط على الحجامة والفصد والعلق، بل على جميع أنواع العلاج أي العلاج بالضد، بهدف العودة إلى التوازن بين الأخلاط في جسم الإنسان والتوازن بين الإنسان والطبيعة.

ويضع ابن القف للحجامة بلا شرط عشرة شروط يجب توفرها، كما يضع شروط للمريض والطبيب ووقت الحجامة، ويحدد الزهراوي نوع المحاجم فيقول أنها قد تكون من القرون من الخشب ومن النحاس، ثم يقول: "والمحاجم التي تسعمل بالشرط وإخراج الدم لها أربعة شعر موضعاً في الجسم، أحدها محاجم النقرة وهو مؤخرة الرأس والكاهل وهو القفا ومحاجم الأخدعين، وهما صفحتا العنق من الجهتين جميعاً ومحاجم العصعص على عجز الذنب ومحاجم الزندين وهما وسط الذراعين ومحاجم العرقوبين".

استطبابات الحجامة: نقل الرأس، الربو، ضيق النفس، انصداع التنفس، والسعال والامتلاء وأوجاع الرأس، والشقيقة، والخناق ولكل من الأوضاع السابقة الذكر أسبابها واستطباباتها. كيفية وضع المحاجم: "وهو أن توضع المحجمة أولاً فارغة، وتمص مصاً معتدلاً، ولا تطيل وضع المحاجم، ولكنك تضعها سريعاً وتنزعها سريعاً، لتقبل الأخلاط إلى الموضع إقبالاً مستوياً، ولا تزال تكرر ذلك وتواليه حتى ترى وتعاود المص رويداً رويداً".

والحجامة بشطر هي ما يسمى في أيامنا هذه بالتشطيب، وهي ممارسة ما زال بعض الأطباء الشعبيين يمارسها، أما الحجامة بغير شرط فيه ما يعادل كاسات الهواء كما تدل صور المحاجم التي رسمها الزهراوي، وما تزال تستعمل في شرق آسيا وبعض البلاد العربية.

أخيراً، فإننا نستطيع أن نجمل أن الأطباء العرب قد مارسوا الكي والفصد والحجامة مع توخي أقصى الدقة والنظافة، وما زالت بعض هذه الممارسات تستعمل في الطب الحديث أو في الطب الشعبي في بلدان مختلفة في العصر الحالي.