الاصابة بالمرض واحدة من المحطات العمرية التي تستحق الوقوف على أركانها باعتبارها مرحلة الشكوى والحرمان، تُبذل فيها جهود شفائية بهدف تحجيم مضاعفاتها لأنها لحظات الضعف التي تقهر الكبرياء والقوة، خصوصا بعدم وجود مناعة الاصابة لأي إنسان على الكوكب البشري، فالمرض بأصنافه لا يعترف بالطبقات الاجتماعية أو بالملاءة المالية، فكم من العظماء قد رحلوا بسبب المرض عندما عجزت أموالهم عن توفير مظلة الشفاء!
واقع لا يمكن تجاهله
هذا الواقع يجعل من العلاقة بين المريض والطبيب ، واقعا لا يمكن تجاهله، ويمكننا تلخيص العلاقة بين الطبيب والمريض بأنها اتفاقية ثقة مطلقة أو هكذا يجب أن تكون يمنحها المريض للطبيب وتجدد تلقائيا بهدف توفير مناخ البعد عن الشكوى والأنين، فالمريض يبحث عن الشفاء بعد دخول عربة العمر بمحطات الزلازل الصحية التي تهدد الاستقرار الصحي وتنذر بتحديد سقف الطموح بينما نجد الطبيب وقد تسلح بمهارات طبية عبر سنوات الدراسة الطويلة توظف لشفاء المريض، رحلة استنزفت قدراته ووقته وإمكاناته بل إجتازت سنوات الشباب التي تسطر لوحات المتعة والاسترخاء، معادلة يمكننا تصورها بنتيجة حتمية لاستمرارية الحياة بعملة قد نُقش على وجهها الأول صورة المريض الذي يشكو ويئن ويتمنى الشفاء، بينما يمثل الوجه الآخر أيقونة الطبيب العلاجية، لنخلص إلى القول إن معادلة الشفاء والتخلص من المرض تمثل ديمومة العلاقة الالزامية بين وجهي العملة، فالمريض بدون الطبيب سيدخل في مربع العطف والتهديد والحرمان، بينما الطبيب بدون المريض سيبخر مكتسبات الشقاء بشمس الفراغ القاتل.
اهتزاز الثقة
ثقة المريض بالطبيب تمثل مرآة صافية بدرجة التكامل للعلامة الكاملة، حيث يمكن للمريض أن يشاهد نفسه على الواقع بكل أبعاده، وخدش العلاقة أو اهتزاز الثقة يشكل بواقعه شرخاً مؤذيا لصفاء الصورة التي قد تكبر أو تصغر أو تتغير بنقوشها نتيجة لخلل تغذية الاستمرارية بالثقة، حيث أن المرض بحد ذاته يمثل التهديد الواقعي للمرحلة الصحية للفرد، ليجعل منه ومن سلوكه نموذجا بسماع النصيحة التي من شأنها إبعاد قارب الحياة عن أمواج الألم والضعف، والعلاقة بصورتها المتداولة تعتبر تبادلية بقاسم مشترك للشفاء، ولكن الزاوية الواقعية تتمثل بضرورة امتثال المريض لنصائح الطبيب والتي تهدف أساسا للشفاء، تتطلب أحيانا تضحيات بدرجات مختلفة وتكلفة مادية لحدث غير متوقع يحتل أولوية بالتعامل كالامتناع عن التدخين أو ممارسة سلوكيات غذائية مثلاً.
زرع شتلة الاطمئنان
لا يمكن للطبيب أن ينجح بشفاء المريض، بدون الحصول على تصريح ثقة وقناعة بالشفاء، فاحترام شخصية المريض وخصوصيته والاصغاء لشكواه، سيمكنان الطبيب من اجتياز فحص الثقة الثاني مؤشرا على حسن الاختيار، كما أن تواضع الطبيب بمخاطبة المريض بدرجة التساوي في محور الانسانية بأساس الحرص على سرية المرض يمثل وأدا لأحد هواجس المريض عندما قرر البحث عن الشخص المناسب للشفاء، فأسلوب الحديث وتوضيح المعلومات المتعلقة بلغة حوار متبادلة وواضحة للطرفين سيمكن الطبيب من زرع شتلة الاطمئنان بحديقة المريض يرويها الطبيب عندما يعذب بلغته وفعله على المريض كرسول للشفاء، حيث أن اكتساب ثقة المريض ورضاه يشكل خطوة الشفاء الأولى في سلم العلاج.
الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب يتمثل بديهيا ببذل الجهود الصادقة وتسخير المهارات الطبية والاصول العلمية بهدف شفاء المريض وتحسين حالته الصحية خصوصا أن التقدم العلمي والتكنولوجي إضافة لتوالد الاختصاصات الفرعية ونتائج الأبحاث العلمية التي تحارب المرض بكل أصنافه لتحجمه قد سمحت جميعها بعدم احتكار وسائل العلاج خصوصا أن تقديم الخدمة العلاجية تكون اساسا بمبادرة من المريض الذي يبحث عن الشفاء من مرضه فيحضر لعيادة الطبيب أو المستشفى، بعد أن يكون قد تجول بالسوق الطبي شاسع الأبعاد، تبدأ الزيارة بتدوين السيرة المرضية بعد تثبيت المعلومات الشخصية، ثم تحليل هذه الأعراض بما يتناسب والشكوى المرضية لحصر التشخيص في الحالات المرضية المتشابهة، يليه الفحص السريري اللازم ولمنطقة الشكوى المرضية بالتحديد، قد يقرر بعدها إجراء بعض الاجراءات التشخيصية المساندة، قبل أن يقرر التشخيص الأقرب أو يقرر بعض الفحوصات المخبرية والتصويرية ليتمكن من تحديد التشخيص، أو قد يقرر الاستئناس برأي زميل آخر من نفس الاختصاص أو اختصاص متداخل للتعاون على كشف اللغز المرضي وبالتالي اقتراح الخطة العلاجية المناسبة التي تتراوح بين مرحلة العلاج الانتظاري وإعادة التقييم أو تناول بعض العقاقير العلاجية أو إقتراح الشق الجراحي وغيرها من الخيارات الشفائية والتي تتركز أساسا على تشخيص المرض بهدف الشفاء. في جميع هذه المراحل، المريض يراقب وينفذ التعليمات بدافع الثقة والأمل بالشفاء، وسينعكس مفهوم هذا التصرف على بناء جسر الثقة بين الطرفين بتقوية جدرانه للحماية من زوابع الدهر وبراكين الزمن، بمعادلة بسيطة فواحد قد استعاد عافيته وفلتر صحته بصرف جزء من مدخراته، بينما الآخر حقق طموحه ووظف مهاراته بصورة تكاملية لشفاء المحتاج بمردود مادي ضعيف مقارنة بالجهد والنتيجة.
فبناء جسر الثقة يحتاج لموازنة مادية يكون الطبيب فيها أحد القاطفين لثمارها بعد أن جهد بتمحيص مفردات العلم وصرف من سنوات العمر الذهبية ليصقل مهارات طبية توظف بلحظة الضعف الكبرى بحياة الفرد عندما يهاجمه المرض ويهدد حياته، مرحلة تلزم المريض بخيار وحيد لصرف جزء من رصيده المادي استحقاقا لمتطلب طارىء، يؤثر نفسيا على البعض خوفا من تأثير ذلك على الرصيد البنكي ونصيب الورثة فيما بعد، لكن على المريض أن يدرك الدرس جيداً أن الهدف المادي لا يمثل الأساس لبناء قاعدة الثقة بمواصفاتها المثالية التي تضمن الديمومة والبقاء، فالطبيب رسول للشفاء.
الوعي الصحي
انتشار الوعي الصحي والمحافظة على المعطيات الصحية بصورتها المثالية ساهما بتحسين صورة الطبيب وعلاقته مع المريض بتقدير للجهد المبذول لطرد غيمة التهديد عن أجواء الحياة التي ينشدها، فالمريض عندما يقرر اختيار الطبيب يدرك ويقدر سلفا حجم الجهد الذي بذله الطبيب لتقديم الخدمة مقابل مبلغ مادي مستحق، فالدستور الطبي ينظم العلاقة الأخلاقية بين الطبيب والمريض، ببنود يغلفها جدار الثقة المتبادلة، بحرص يساعد على اجتياز محنة المرض بكل مفرداته لإلزامية والتكيف مع الفترة الأضعف بحياة الفرد، فمحور الشك سيفسد العلاقة ليمطر الأجواء بحبيبات من اليأس تزيد المصاعب وتجفف ينابيع الأمل للحرمان.
الطبيب على درجة كبيرة من الوعي بأن تصرفات المريض الشخصية أحيانا هي بالتأكيد ارتدادات للزلزال المرضي الذي يلزمه بالخوف من زيارة ابليسية أو يجبره على سلوك طريق ليس بالحسبان، أمور تحتاج من الطبيب التحلي بسعة الصدر لامتصاصها بدون اعتبارها حجر عثرة بالخطة العلاجية، فالمريض بداخله يقدر للطبيب عظيم عمله بأمر يتطلب منه الصفح، فأنين المرض أحيانا يعالج بتفريغ شحنات الهموم على الربع المحيطين، والطبيب واحد من هؤلاء بنصيب يتعدى حدود التوقع