تحدثنا في الحلقة الثانية عن النوبات الصرعية الجزئية البسطة منها و المعقدة و عن الحالة الصرعية العنيدة ثم ذكرنا ضرورة تفريق نوبة الصرع من الامراض التي لها اعراض تشنجية و فقدان للوعي و اخيراً تحدثنا عن اسباب الصرع في مختلف مراحل العمر , و في هذه الحلقة سنتحدث عن علاج الصرع و تطرة هذا العلاج عير العصور
الاجراءات التشخيصية :
قبل البدء بعلاج النوبات الصرعية يجب تشخيصها بدقة و التأكد من ان الحالة هي نوبة صرع و ليست مرض اخر , و بعد ذلك يجب تحديد نوع النوبة ليتم اختيار الدواء المناسب لها , و هذا كله يتطلب القيام بما يلي :
1- ملاحظة الاعراض و العلامات الظاهرة على المصاب مثل : الصداع , اضطراب المزاج , و الخبل و رجفان عضلي و كذلك مرحلة الانذار التي تسبق النوبة بمدة قصيرة , و تمييزها عن تلك التي تظهر في الامراض الاخرى التي سبق ذكرها في الحلقة السابقة عند الحديث عن التشخيص التفريقي
2- اجراء التخطيط ادماغي الكهربائي و خاصة اثناء النوبة ان كان ذلك ممكنناً لانه يبين الموجات الكهربائية للتفريغ العصبوني و يحدد انواعها و بالتالي يؤكد التشخيص , و لكن عدم ظهور الموجات غير الطبيعية خارج اوقات النوبة لا ينفي الاصابة بها
3- اجراء الصور الشعاعية و خاصة الصور الطبقية و الرنين المغناطيسي , فهي ذات اهمية بالغة بالمرض الذين يظهرون اعراضاً عصبية بؤرية
4- التحاليل المخبرية : كل مصاب يزيد عمره على 10 سنوات يجب اجراء تحاليل مخبرية له تشمل تحليل مكونات الدم و معدل سكر الدم و كذلك الكلس و الشوارد المعدنية الاخرى في الدم و كذلك قياس وظيفة الكلية و الكبد
العلاج :
ارتبط علاج الصرع بنظرة المجتمع و اعتقاده باسبابه و طبيعته , ففي العصور القديمة و حتى ايامنا هذه عند بعض المجتمعات حيث النظرة للصرع نظرة ميتافيزيقية ( غيبية ) تربط الصرع باسباب فوقية روحية شريرة او غير شريرة , و الى ظواهر طبيعية كالريح جعلتهم يلجأوون في علاجه الى وسائل غير علمية تقوم في معظمها او كلها على اساس الشعوذة , و كانو يقومون بضربه ضراً مبرحاً لاخراج الجن او الشيطان من داخله و كانو يكبلونه بالسلاسل الحديدية خشية منه , و قد شاهدت هذا التقييد بالسلاسل في بداية النصف الثاني من القرن الماضي لاحد المصابين بالصرع من اهل قريتنا , و كانوا يسارعون لعرضه على المشعوذين و الدجالين الذين يستغلون جهل الناس فيبتزون اموالهم و يخدعونهم و يكذبونهم و يدجلون عليهم بوصف علاجات خرافية و غريبة توهم الاهل بنجاعتها في شفاء مريضهم , فمثلا يصفون له ان يأكل ( حرباء ) بعد قتلها و تجفيفها و طحنها و سحقها ليتخلص من السحر الذي سبب له هذا المرض , و بعضهم يوهمهم بان علاجه في كلام متقطع غير مفهوم او خطوط متعرجة و تشكل على شل حرز او حجاب , او في تعليق تميمة في عنق المريض , و هذه التمائم حرمها الاسلام و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من تعلق تميمة فلا اتم الله له , و من تعلق ودعة فلا ودع الله له ) ( رواه احمد في المسند 4 – 154 و قال المنذري في الترغيب 4- 1316 أ , قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم "
(الامام احمد برقم 18645 و صححه الالباني في صحيح ابن ماجه برقم 2772 ) و هذا دليل على ان الرسول صلى الله عليه وسلم امر بالتداوي , و ان التداوي لا ينافي التوكل على الله كما لا ينافيه دفع داء الجوع و العطش و الحر و البرد باضدادها .
اخرج الشيخان من حديث عطاء بن ابي رباح قال : قال ابن عباس : الا اريك امرأة من اهل الجنة ؟ قلت : بلى .
قال : هذه المرأة السوداء اتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : اني اصرعو اني انكشف فادعو الله لي فقال : ان شئت صبرت و لك الجنة و ان شئت دعوت الله لك ان يعافيك فقالت : اصبر . قالت : فاني انكشف فادعو الله لي ان لا انكشف فدعا لها "
فقوله صلى الله عليه و سلم ان شئت صبرت و لك الجنة دليل على ان صرعها مما يحتاج الى الادوية الطبيعية , فخيرها بين الصبر و الجنة و بين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر و الجنة و لكنها طلبت منه ان يدعو لها بان لا تنكشف فدعا لها .
و من افضل الرقى التي يرقى بها ما كانت من كلام الله تعالى او من كلام رسوله عليه الصلاة و السلام , و اعظم الرقى هي : سورة الفاتحة و قراءة الاية الكريمة : " افحسبتم انما خلقناكم عبثا و انكم الينا لا ترجعون " . و كذلك المعوذتان و الاخلاص . و من الرقى ايضا الرقية التي رقى بها جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه و سلم : " بسم الله ارقيك من كل شيء يؤذيك , من شر كل نفس او عين حاسد الله يشفيك , بسم الله ارقيك " و كذلك : " اللهم رب الناس اذهب البأس , اشفي انت الشافي لا شفاء الا شفائك شفاء لا يغادر سقمه " و كذلك : " اعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان و امة و من كل عين لامة " . فتقرأ هذه الرقى بخشوع و يقين و قبول و تكرر فتنفق بمشيئة الله
العلاج الدوائي :
ان علاج نوبات الصرع بالادوية المضادة للصرع امر عظيم تترتب عليه امور كبيرة للمريض و اهله تؤثر على مجرى حياته , و لذلك يجب بذل الجهود للوصول الى تشخيص دقيق للتشنجات و ليس هناك ما يبرر استخدام " العلاج بالتجربة " و على العموم لا يجوز البدء بالعلاج من اول نوبة تشنجات و انما يجب الانتظار حتى تتكرر النوبة و يتم اجراء الفحوصات المخبرية و الشعاعية , و يبدأ العلاج اذا حدث نوبتان خلال سنة و يجب الاخذ بعين الاعتبار بين علاج نوبات التشنج على انها صرع و بين التأثيرات الجانبية لادوية الصرع . و عند اتخاذ القرار ببدء المعالجة يجب استخدام علاج واحد فقط من علاجات الخط الاول , و لا مجال للمعالجة لاول مرة باستخدام دوائين او اكثر او بعلاج من علاجات الخط الثاني و يجب البدء بجرعة بسيطة تزداد تدريجياً تحت المتابعة و المراقبة حتى الوصول الى اقل جرعة كافية للسيطرة سيطرة تامة على النوبات بدون ظهور التأثيرات الجانبية ,وقد يتساءل الكثيرون هل يمكن ايقاف العلاج ام انه لا بد من الاستمرار عليه مدى الحياة ؟ و هل يمكن الشفاء من المرض ؟ و الجواب على ذلك انه من الصعب الاجابة على هذين السؤالين بدقة لانه لا يمكن ضمان الامان و عدم الانتكاسة بعد وقف العلاج لاسباب لعل اهمها دقة عملية وقف العلاج ووقتها و مع ذلك فنقول ان بعض المرضى يحتاجون الاستمرار في العلاج مدى الحياة و لكن هناك رأي يقول انه اذا لم تحدث و لا نوبة لمدة 3 سنوات متتالية فانه يمكن ايقاف العلاج و خاصة اذا توفرت العوامل المساعدة مثل : بداية المرض في سن الطفولة , و اذا كانت البداية نوبة عامة و ليست جزئية و عدم وجود افات دماغية , و قصرالمدة التي تستغرقها المعالجة و اذا كان تخطيط الددماغ طبيعياً . غير ان بعض الدراسات وجدت ان نسبة الانتكاس و عودة النوبات عند المرضى الذين اوقفوا العلاج بعد توقف النوبات مدة 2 – 3 سنوات بلغت حوالي 30% بينما اظهرت دراسات اخرى ان 60 – 70 % من المرضى لم تعد اليهم النوبات بعد ايقاف العلاج بعد 15 سنة من التداوي , و هذا ما يرشدنا الى انه كلما طالت مدة التداوي كلما كان احتمال الانتكاسة و عودة النوبات اقل و احتمالية الشفاء اكبر , و مع كل ذلك فانه يجب توعية الاهل و تثقيفهم و تحذيرهم من خطورة ايقاف العلاج قبل 3 سنوات من تاريخ اخر نوبة و كذلك ايقاف الدواء فجأة لانه سيؤدي الى انتكاسة عنيفة غالباً ما تكون " الحالة الصرعية المتواصلة " و لهذا يجب ان يكون ايقاف الدواء تدريجياً و بطيئا جداً خلال مدة قد تصل الى العام و تحت اشراف الطبيب الاخصائي المعالج . و قد لا يكفي دواء واحد للسيطرة على النوبات , فعدها يجب اعطاء المصاب دواء ثان او اكثر حسب قاعدة ادوية الخط الاول و الخط الثاني حسب نوع النوبة و في ما يلي بيان بادوية الخط الاول و الخط الثاني .
ادوية الخط الاول : يلاحظ ان دواء فالبروات هو من ادوية الخط الاول المناسب لجميع انواع النوبات , و دواء كاربما زيبين مناسب للسنوية العامة و الجزئية و مثله دواء فينتوين ودواء فينوباربيتون ، بينما الدء الصغير فيناسبه إيثوسكسمايد .
أما ادوية الخط الثاني : فإن دواء كلوبزام يناسب الداء الكبيروالنوبات الاهتزازية والنوبات الجزئية ثم دواء كلونازيبام الذي يناسب جميع انواع النوبات.
وهناك ادوية حديثة اضيفت الى هذه الادوية الكلاسيكية القديمة مثل : جابابنتين و لوموتريجين و توبايرامات و فيجابترين و غيرها .
و يجب التذكر ان جميع الأدوية المضادة للصرع لها تاثيرات جانبية سلبية كيرة و هذا ما يفرض على الطبيب المعالج ادرارة عملية العلاج باقل السلبيات و هناك قواعد هامة يجب اخذها بالاعتبار بالمعالجة الدوائية و هي :
1- اختيار الدواء الافضل لنوع النوبة حسب قاعدة الخط الاول و الخط الثاني
2- اختيار دواء واحد و عدم البدء بدوائين من المرة الاولى
3- الاخذ بعين الاعتبار التأثيرات الجانبية السلبية لكل علاج عند اختياره
4- يجب تحديد الجرعة حسب وزن الجسم و و توزيعها على ساعات اليوم حسب مدة مفعول الدواء و نصف عمره , و يفضل الدواء الذي يستمر مفعوله 24 ساعة او 12 ساعة لسهولة تناوله مرة واحدة او مرتين يومياً
5- اذا لم تتم السيطرة التامة على النوبة فيضاف دواء اخر , و اذا تمت السيطرة يسحب الدواء الاول تدريجياً و ببطء اذا ثبت انه ليس له اهمية
6- في بعض الحالات يحتاج المصاب الى اكثر من دوائين للسيطرة على النوبات فيجب اختيار الادوية التي لا تتداخل مع بعضها البعض و لا تتفاعل فيما بينها فيبطل مفعولها جميعها
7- عند الحاجة الى اضافة دواء او اكثر يجب قياس مستوى الدواء المستعمل في الدم للتأكد من ان المصاب يتناول العلاج الاول او العلاجين الاول و الثاني حسب ما هو محدد , لانه احيانا يكون عدم السيطرة على النوبات راجع اما الى قلة الجرعة او عدم تناول العلاج او عدم الانتظام بتناوله
8- يجب التنبيه على الاهل انه لا يجوز ايقاف العلاج فجأة او عدم الانتظام بتناوله , لان ذلك سيؤدي الى حدوث نوبات متواصلة .
9- لا يجوز باي حال من الاحوال ايقاف العلاج قبل مرور 3 سنوات على توقف النوبات توقفاً تاماً و على ان يتم سحبه تدريجياً و ببطء على سنة كاملة
10- يجب ان يكون اي تغيير او عديل او ايقاف للدواء تحت اشراف مباشر للطبيب الاخصائي المعالج و بالتنسيق التام و التعاون ما بين الطبيب و المريض و الاهل .
علاج الحالة الصرعية المتواصلة :
اذا حدثت الحالة الصرعية المتواصلة فيجب اعطاء المصاب فاليوم بمعدل 10 – 20 ملغم عن طريق الوريد لايقاف التشنجات و ارخاء العضلات , و بعد اعطائه الفاليوم يعطى دواء نوبة الصرع عن طريق الوريد ايضاً , و قد اثبت علاج فالبروات فاعلية جيدة و انه افضل العلاجات لمعالجة النوبات المتواصلة , و يأتي بعده في الفعالية علاج ايبانوتين و اذا لم تتم السيطرة على النوبة باستعمال دواء واحد يضاف دواء ثاني , و بعد استقرار الحالة و توقف النوبة يتم سحب العلاج الثاني تدريجياً .
دور الاهل و المحيطين بالمصاب عند حدوث الداء الكبير التصلبي الارتجاجي او الحالة الصرعية المتواصلة : ان الهدف من تدخل الاهل و الطبيب و المحيطين بالمصاب هو حمايته من الحاق الاذى و الضرر بنفسه و هو اذى لا ارادي , و ذلك يتتطلب منهم ما يلي :
1- متابعة حالة المصاب و مراقبته المستمرة للانتباه للنوبة قبيل حدوثها حتى يتمكنوا من مساعدته و حمايته .
2- حماية المصاب من الصقوط الشديد و المفاجئ على الارض و ف الاماكن الخطرة , و ذلك بدعمه و امساكه و بسط فرشة على الارض ان امكن .
3- التأكد من سلامة المسالك التنفسية و انها مفتوحة و الابقاء عليها مفتوحة و و ان التنفس طبيعي
4- وضع المصاب في وضعية الاستفاقة و هي تمديده على جانبه الايمن و ادارة رأسه باتجاه الارض حتى لا يرجع لسانه الى الخف فيغلق مجرى التنفس , و كذلك حتى يسهل خروج الافرازات و القيء من الفم فلا يختنق .
5- تنظيف فم المصاب و مسح او شفط الزبد و الرغوة من فمه
6- وضع انبوب تنفسي بلاستيكي في فمه ليمنع اصطكاك الفكين و الاسنان فيقي لسانه و شفتيه من العض , و يبقي على فمه مفتوحاً فيسمح للهواء بالدخول الى الرئتين فلا يختنق , و لا يجوز محاولة فتح الفك بالقوة حتى لا ينكسر
7- لا يجوز وضع اي شيء صلب او قطعة قماش في فمه , لان ذلك يعيق دخول الهواء و يسبب نقص الاكسيجين فحيدث الاختناق و الازرقاق
8- يجب عدم محاولة ايقاف التشنجات بالقوة او ضرب المريضض او وضعه مستلقياً على ظهره او الضغط على بطنه , لان ذلك يزيد من خطورة الاذى للمصاب .
9- و اذا كانت النوبة متواصلة فيجب نقله بسرعة الى اقرب مستشفى لاعطائه الادوية الخاصة بالحالة الصرعية عن طريق الوريد .
و ختاما نقول للمجتمع بان داء الصرع هو مثل جميع الامراض التي تصيب الانسان في اسبابه و مخاطره و في كونه خارج عن ارادة المصاب الذي ليس له اي دور في اصابته به , و ان هذا الداء ليس عيباً و لا عارا يلحق بالمصاب او باهله . و قد اثبتت الدراسات ان المصابين بالصرع غير قادرين على اقامة علاقة زوجية ناجحة و بناء اسرة , و ان المجتمع يلعب دوراً مهماً في هذا العجز عن افامة هذه العلاقة الانسانية , بل و ان 26 % من المصابين بالصرع تم رفضهم اسرياً , اما رفضا تاما ادى الى التشرد و الضياع و اما رفضا جزئياً بحيث تعتبر الاسرة ابنها المصاب بالصرع عاراً و عيباً فتحجبه عن الناس و تمنعه من ممارسة حياته بشكل عادي , و بذلك يكون المجتمع بما فيه الاسرة من خلال نظرته الدونية للمصاب و رد فعله اتجاهه , و الرفض العائلي الذي من صوره الحماية الزائدة له الى جانب تفاعل المصاب مع حالته و تناول المضادة للصرع بتأثيراتها السلبية و بتوليد احساس لدى المصاب بانه شخص غير طبيعي , كل هذه العوامل ادت الى تحطيم شخصية المصاب اكثر من تحطيم الصرع نفسه لشخصيته و عليه فالمطلوب من المجتع ان يغير نظرته الى المصاب بالصرع و يقدم له التعاون و الاحترام و يعمل على ادماجه في الحياة المجتمعية كانسان عادي غير موبوء