تشكل الكآبة اكثر الامراض النفسية شيوعا , فنسبتها تقارب " 20% " في أي مجتمع , فمن كل خمسة أفراد هناك مصاب . و من سمات الانسان الكئيب هيمنة الحزن والغضب , وتدني المزاج , والنقمة على الذات والحياة, وتزين له الكآبة اجترار المآسي والماضي المؤلم والتلذذ بمشاعرها بشكل خفي وان كان لا يبوح بذلك , وهذا ما يجعله يعيش في ديمومة الكآبة والغرق فيها , وهذا التلذذ الخفي ما أغفلته للأسف كثير من التصنيفات الطبية النفسية وكذلك الباحثون في علم النفس .
ان الكآبة تسول للإنسان إيذاء ذاته او الانتحار , او إيذاء الآخرين , وبالتالي تتسلل الى النفس كالشيطان , فتزين للإنسان أعمال السوء كي يصبح الموت رجاءً , والناس اعداءً , والحياة لا قيمة لها , بل انها عبئ ولا طعم لها , ويتلذذ ان أصابته نائبة ٌ او مرض , ويحقد على ذاته و القاصي والداني , والحاضر والمستقبل .
انه الإغواء بالتلذذ والمضي بالمعاناة , هكذا هو الفكر للإنسان الكئيب " لا رجاء مني , ولا فائدة لوجودي , ولا مكانة لي , إنني عبئ على العائلة والمجتمع , إنني فاشل , لا استحق الحياة ." وهذا ما يفسر الإسهاب في ندب الحظ , والشكوى والانغماس في شجون الاغاني الحزينة , مع إسقاط ذلك على الحياة و الآخرين مما يؤدي الى الحلقة المفرغة . وهكذا فمزيد من الكآبة .
ونتيجة الانحدار الفكري الناجم عن ذلك قد تصبح الكآبة نمط حياة ومشروع نفسي متعلم , ينقاد به الانسان الكئيب , وبالتالي هلاك الذات بضياع فرص الحياة , وتطوير الذات , والقدرة على التصليح والترميم لشؤونه الخاصة , والانحدار الى نزوة الموت , بل هو الموت النفسي بعينه , حينما يصبح الانسان عاجزاً أمام ذاته و الآخرين , والحاضر والمستقبل , وغارقاً في جلد الذات وظلمات الماضي والبؤس , لا انجاز ولا تغيير ولا دافعية ولا نهوض ....انه الموت النفسي الظاهري .
اذ ان الكئيب يحوي في ذاته القلق , والخوف , والغضب , والعنف الكامن , المرتد على الذات والخارج , انه يرى ذاته بالفشل وعدم استحقاق الحياة تلك هي الصورة التي توصل الكئيب الى تحطيمها حينما ينتحر للقضاء عليها سواء كان ذلك مباشرأً بإنهاء الذات سريعا , او غير مباشر حينما يغرق في المخدرات والكحول و الإسراف في التدخين , والعنف الشديد التي قد تؤدي الى إنهاء ذاته .
فالكآبة تكرس النظرة الدونية في رؤيته , فيشعر بأنه ناقص القيمة والاعتبار و المكانة , و بنفس الوقت فإنها تغرز العواطف السلبية كالندم , ولوم الذات , والخوف , والرهاب , وخيبة الأمل , وقلة الحظ , والشعور باليأس والهزيمة أمام ذاته والعجز, والعنف , والحقد على الآخرين , وبما ان الكآبة تصاحبها اضطراب النوم والطعام و الجنس فذلك يسعّر من شدتها .
وعليه فان الفكر الكئيب يؤدي الى تعطيل استغلال القوى الذهنية من تركيز وانتباه , وتحليل , واستنباط , وإقدام , ومبادرة , وتغيير وتحديث و تجريب , وتتعطل العلاقات العائلية , والزوجية , و الجنسية , والعلاقات الاجتماعية والعمل , وبهذه الحالة يخلد الكئيب الى الوحدة التي تشكل له أنساً , وبالتالي تتعزز الكآبة شدةً ذلك ان الانسان يصبح أسير ومقيدا لكل الأفكار السوداوية والخوافية , في عالم من الظلمات والمتاهات , لا أمل , ولا طموح .... انه يعيش خارج ذاته الأصيلة مع الواقع مع ان لديه من الإمكانيات والقدرات ما تكفي لان يتصدى لهذا المزاج و تبعياته, يعيش في غربة مع الذات والآخرين والحياة . و يقف موقف المتفرج اليائس على ذاته و مجريات الحياة , فهو يعيش الحياة كزمن لا الحياة كحيوية ان المتفرج القانط على لعبة الحياة .
وهذا للأسف احد الاسباب الهامة من خلال ملاحظتنا العيادية ان الكئيب يأتي بعد فترة طويلة تمتد احيانا الى سنوات للمعالجة النفسية بعد ان أقنعة الأهل , او استيقظ ومضياً من الأزمة التي يعيش فيها بعد ان فقد الفرص , وضيّع من الامكانيات الكثير وهوت نفسيته الى ادنى الدرجات , و اصبح غريبا عن ذاته والاخرين .