تبيّن الدراسات الجارية في مجال نمو الدماغ أن العنف التربوي يؤثر بقوة في عملية نمو الدماغ واستقراره، وقد يصل هذا التأثير إلى مستوى تدمير الدماغ وشلّ القدرة العقلية لدى الأطفال ضحايا العنف التربوي، وهذا يتوقف بالتالي على درجة العنف التي يتعرض لها الطفل.
فالطفل يتميز بعجزه الفطري المطلق بعد ولادته مباشرة، ولا يمكنه الاستمرار في الوجود من غير العناية والرعاية اللتين يوفرهما له الكبار، كما أنه يحتاج إلى زمن طويل من التربية والتغذية والاهتمام ليتمكن في النهاية من الامتلاك التدريجي للقدرة على التكيف في أدنى مستوياته.
منذ اللحظات الأولى لوجوده يشارك الطفل في بناء صلاته مع الوسط الذي يعيش فيه بطرق مختلفة وديناميات متنوعة، إذ يبدأ مبكراً بتكوين علاقة وجدانية عميقة الأبعاد مع أمه، حيث يشكل بكاؤه وابتساماته وحركاته وردود أفعاله في علاقته مع الأم نوعاً من الاتصال الإنساني المبكر الذي يشكل نواة للتواصل اللاحق مع عالم الكبار الذين يحيطون به.
في البداية يبدأ الطفل بتمييز الوجوه التي تحيط به ولاسيما وجه الأم وصورتها، وهذا التمييز يسمح له بالتعرف اللاحق على وجوه جميع أفراد الأسرة الذين يحيطون به. وقد بينت الدراسات العلمية في هذا المجال أن عملية اتصال الطفل مع الأسرة تشكل عاملاً حيوياً وأساسياً في تكوينه الذهني، وأن دماغ الطفل يتشكل في دائرة الاتصال المتزامن للطفولة مع الكبار في وسطه العائلي. فالعصبونات الدماغية الكامنة في دماغ الطفل تأخذ استطالاتها وتنمو شبكاتها وتفاعلاتها الكهرومغناطيسية منذ الولادة، وتتعاظم إلى مليارات الشعيرات والعصبونات والدقائق، وهذا التسارع في النمو يؤدي إلى نمو مذهل في حجم دماغ الطفل الذي يتعاظم نموه في مرحلة الطفولة الأولى حيث يصل تضاعف هذا النمو إلى %50 من حجمه خلال الأشهر الستة الأولى ويصل إلى %95 من حجمه في السنة السادسة من عمر الطفل.
وتبين الدراسات الجارية في مجال علم بيولوجيا الأعصاب أن نمو العصبونات الدماغية الداخلية وتفاعلها النظمي في الدماغ يتعلق بوضعيات الاتصال التي يقيمها الطفل مع وسطه والمحيطين به، وهذا يعني أن التفاعل الاجتماعي التربوي للطفل، وتواصله مع أفراد أسرته ولاسيما مع أمه يشكل المنطلق الأساسي لتنمية دماغه وقدراته العقلية. وتلك هي الحقيقة التي يصارحنا بها عالم الأعصاب الأمريكي بيزيل فان حيث يقول: «إن تطور الكائن الإنساني يكمن في تطور الجبهة الأمامية للدماغ كما يتوقف على نمو القشرة الدماغية لديه»، وتأسيسا على هذه الحقيقة فإن أسلوب تعامل الآباء والأمهات في التربية يشكل أحد العوامل الأساسية في تطور دماغ الطفل ونموه.
وفي دائرة هذا التواصل يمكن القول إن الآباء والأمهات عندما يغدقون محبتهم على الطفل، عندما يقرؤون له حكاياته المفضلة، ويأخذونه بين أيديهم ويلعبون معه، ويتواصلون معه بمختلف الصيغ والأشكال التواصلية الإنسانية الخلاقة فإنهم يساهمون في عملية تنمية دماغ الطفل وعقله بصورة إيجابية وصحيحة، وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة تقوم على التخويف والقمع والإرهاب والإهمال وغير ذلك من أشكال الاتصال السلبية فإن عقل دماغ الطفل يتباطأ في عملية نموه، وبالتالي فإن نمو دماغه سيكون في الحدود الدنيا للنمو الحقيقي، قد يؤدي ذلك إلى عملية تدمير للإمكانات الذهنية والعقلية للطفل في المستقبل. وهذا بدوره يؤدي أيضا إلى إضعاف قدرات مخ الطفل نفسه على بناء علاقات مع الوسط التربوي الذي يحتضنه ويحيط به، وهنا يفقد الدماغ قدرته المطلوبة في الحصول على المعلومات الخارجية المستجدة ومعالجتها، كما يفقد الطفل القدرة على الاستفادة من التجارب الحياتية التي تشكل مصدراً للتعلم والنمو العقلي والذهني.
تعطيل النمو الذهني والدماغي
يرى كثير من الباحثين أن بعض الصدمات الخفيفة قد تكون قادرة على تعطيل النمو الذهني والدماغي عند الطفل. وفي هذا الأمر يعلن عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو«أن اضطرابات النظام الدماغي يمكنها أن تؤدي إلى عطالة وظيفية في طبيعة الدماغ ولاسيما في الدورة المجهرية للعصبونات الدقيقة». ويتابع داماسيو قوله: «حتى أن بعض الاضطرابات الخفيفة في النظام العصبي للمخ قد تؤدي إلى اضطرابات كبيرة وخطرة في مستوى الحياة الذهنية عندالطفل». وفي هذا الصدد يعلن جوزيف لودو وهو أحد علماء الأعصاب الدماغية «إن أي تغيرات مهما تكن بسيطة في ترابطات الخلايا الدماغية، أو أي تغيرات طفيفة جدا في طبيعة التحولات الكهرومغناطيسية بين العصبونات الدماغية، قد تؤدي إلى اختلاف كبير في طبيعة سلوك الكائن الإنساني». وتبين الدراسات الجارية في هذا المضمار أن المراكز الدماغية الانفعالية والمناطق الدماغية الخاصة بالذاكرة، وهي مناطق في غاية الأهمية من حيث توجيه السلوك، تتميز بهشاشتها وقابلتيها الكبيرة للتصدع والضرر.
وفي هذا الشأن يمكن الإشارة إلى ما يعلنه فان دير كولك حديثا «إننا نخطئ كثيرا في تصورنا لمفهوم الصدمة، فنحن نجد صعوبة في تمثل واستيعاب بعض الأحداث الصعبة والمخيفة الاستثنائية في حياتنا ولكن يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن العدد الكبير من الأحداث المؤلمة العادية تلعب دوراً كبيراً وخطيراً في تشكيل شروط الحياة الإنسانية لدى الأطفال، وبالتالي فإنه عندما يجد الفرد نفسه تحت تأثير الشعور بالعجز وخيبة الأمل فإن ذلك يترك ندوباً مؤلمة تستمر مع دورة الزمن». فكل هؤلاء الذين عاشوا في وسط تربوي لآباء متسلطين، وعاشوا في كنف علاقات تربوية عنيفة، أو هؤلاء الذين تعرضوا لصدمات انفعالية شديدة، كفقدان صديق بحادث يعرفون مرارة هذه الوضعيات ويدركون الآلام المحزنة التي خلفتها على امتداد الزمن. ولكن هؤلاء الأفراد قد لا يدركون التأثير والندوب التي تتركها هذه الأحداث فيما بعد الصدمة في تكوينهم الذهني والعضوي، فأبحاثنا ودراساتنا تبرهن اليوم على أن هذه الأحداث المؤلمة تترك بصمتها في مستوى الجسد والبنية الذهنية الدماغية عند الفرد.
عندما يتعرض الطفل للعدوانمن قبل مصدر أمنه
يمكننا أن نجد في المثل الشعبي «حاميها حراميها» صورة للتهكم من المفارقات المنطقية في وظائف الأشياء. فالأب والأم يشكلان من حيث الجوهر حماة الطفل ومصدر استقراره وأمنه وملاذه الوجودي، وعندما يتعرض الطفل للعدوان والاعتداء والتسلط من جهات خارجية فإن الأثر الممكن قد يكون ضئيلا جدا بالمقارنة مع التسلط الذي قد يتعرض له من قبل أبويه مصدر أمنه. فعندما يتعرض الطفل للعنف من قبل الأبوين أو أحدهما، فهذا يعني أن الطفل قد خسر آخر معاقله الوجودية، وهذا يعني أن آثار القمع والتسلط الداخلي الذي يصدر عن الأبوين قد يشكل مقتلا نفسيا للطفل، ويؤدي إلى تدميره أخلاقيا وذهنيا في مراحل لاحقة من حياته.
فالطفل بوصفه كياناً فطرياً، لا يوجد في استعداداته الفطرية والوجودية ما يجعله قادراً على تحمل الهجوم والاعتداء والتسلط من قبل أبويه، فهو ليس معداً ومهيئاً نفسياً أو فطرياً لقبول أو تحمل هذه الكارثة الوجودية. فالأب والأم يمثلان في حقيقة الأمر المصدر الأمني الوجودي للطفل وهما يشكلان الحصن الحصين الذي يوفر للطفل الأمن العاطفي والانفعالي ويمكنه بالإضافة إلى ذلك من امتلاك القدرة على مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها. فعندما يتعرض الطفل للاعتداء من قبل أي كان فإنه سرعان ما ينادي أبويه أو أحدهما طلبا للحماية والأمن، وعندما يكون كبيرا فإنه سرعان ما يجري بحثا عن أحد أبويه ليرتمي في أحضانه طلبا لأمنه الإنساني. ولكن الطفل عندما يتعرض لعقاب من قبل الأم أو الأب مهما كان هذا العقاب خفيفا فإنه سرعان ما يمتلكه شعور مؤلم بأنه قد أصبح وحيدا في مواجهة العالم وأنه يواجه خطرا وجوديا، وكأن كل قطعة من جسده تقول له إنه أصبح وحيدا طريدا وإنه لن يستطيع الاستمرار في هذا الكون خارج حصنه الأمني ومتراسه الوجودي. فالعلاقة العاطفية التي تربطه بأبويه تمثل عاملا حيويا ووجوديا في تكوينه وفي قدرته على الاستمرار. وبالتالي فإن تعرضه لعدوانية من يفترض بهم تقديم العون والحماية سيكون كارثة إنسانية ووجودية بالنسبة للطفل وغالبا ما يرتد الطفل في هذه الحالة إلى وضعية القلق النفسي والتوتر الوجودي، وهذا التوتر النفسي والقلق السيكولوجي يكون في الغالب ردة الفعل الطبيعية لسلوك الطفل إزاء غياب الأمن الداخلي.
ففي المستوى البيولوجي العصبي، أي في الحالة التي يتعرض فيها الطفل لعدوانية الأبوين، فإن الطفل يعاني فرط إفرازات هرمونية مضطربة تؤثر مباشرة في النسق الوظيفي لعمل المخ ونموه، وتضع الجسد بكامله في حال استنفار كامل لمواجهة الخطر الوجودي. ولأن الجسد أو العضوية بكاملها في حالة خطر فإن ردود الفعل تكون في الدفاع أو في الهرب وذلك من أجل تحقيق التوازن والعودة إلى مستويات الاستقرار الطبيعي للنفس والجسد. ولكن في الحالة التي لا يستطيع فيها الطفل دفاعا أو هروبا من تحدي العدوان الداخلي (تسلط الأبوين) فإن التكوين السيكولوجي الفطري يضعه في حالة التوتر والاكتئاب وبالتالي فإن هرمونات الاكتئاب والصدمة تتحول إلى قوة تفتك بالجسد فتهجم على النظام العصبي لديه وتلحق به أشد الضرر. ويضاف إلى ذلك أن النظام المناعي يفقد تواصله الفعال مع الدماغ وذلك تحت تأثير قانون الاقتصاد في الطاقة وهو بذلك يجعل الجسد إزاء مخاطر المرض والانهيار.
فالطفل عندما يضرب من قبل أبويه، يشعر بالعجز، ويرغب في الهرب إلى أي مكان آخر غير المنزل الذي يحتضنه، فهو لا يستطيع الدفاغ عن نفسه لضعفه وعجزه. وعندما يعتاد الأبوان على ضرب الطفل ولطمه فإن هذه العقوبات تكون في الوقت الذي ينمو فيه دماغه ويتشكل. ولذلك، غالبا ما يعاني الطفل الطريد والمعاقب من قبل أبويه من المرض المستمر في مرحلة الطفولة، وهذا يؤدي أيضا إلى التأثير سلبا وبكل المقاييس على وضعية الجملة العصبية الدماغية في الطفل، لأن ردود فعل الطفل تكون نفسية وعصبية وهرمونية، ومع ديمومة هذه الاستجابات النفسية الحزينة فإن الدماغ - ومع الاستمرارية في مواصلة العنف - يصاب بضرر كبير يؤدي إلى ضعف شديد في القدرات الذهنية والعقلية عند الطفل في المستقبل.
وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ضعف التكوين العصبي في مرحلة الطفولة وهشاشته وعرضته للتدمير تحت تأثير العنف الذي يصدر عن العمق الأمني للطفل ممثلا بوالديه.وهنا أيضا يجب علينا أن ندرك مدى الخطر الذي يتعرض له الطفل عندما يتعرض للشدة والعنف والتسلط من قبل والديه أو الآخرين، وأن نحذر من ممارسة هذا العنف. وهنا أيضا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بأن أي شكل من أشكال العقاب الفيزيائي والنفسي مهما تبلغ درجته أو بساطته - التي يعتقد بأنها أمور عادية وبسيطة لا أثر لها ولا خوف منها - يمارس دوراً كبيراً في إضعاف البنية الذهنية والعقلية عند الطفل. وهذا العنف الذي تتم ممارسته في تربية الطفل يدخل في دائرة علاقات التواصل التي تؤدي دورها في تربية الطفل على نحو سلبي ومأساوي حيث تلعب هذه العلاقات دوراً أكبر مما نتصور نحن المربين في التأثير على عقل الطفل وحياته.
العنف يولد الخضوع والعنف
غالبا ما نعتقد بأن صفعة خفيفة للطفل، أو متواضعة على قفاه، أو شدة إذن عابرة، تمكننا من توجيه سلوك الطفل وتربيته بصورة صحيحة. ولكن في حقيقة الأمر فإن الأثر الذي تتركه هذه الصفعات الخفيفة والضربات البريئة قد تكون مؤثرة ومدمرة. ولأننا نشكل النموذج التربوي لأطفالنا فإن الصفع والضرب والاعتداء الذي نقوم به يحمل رسائل مهمة ودلالات خطرة في تربية الطفل تتمثل في تكثيف وغرس البعد غير الأخلاقي في سلوك الطفل نفسه. فالعنف يعلّم الأطفال ما لا نتمناه لهم ويأخذهم إلى ممارسة غير تربوية وغير أخلاقية في المستقبل، إنه يعلمهم-
-عندما لا توافق شخصا ما في رأي أو موقف فإن لك الحق في أن تصفعه حتى لو كنت تحبه-
عندما تصبح كبيراً وقوياً لك الحق في أن تضرب الصغار والضعفاء وتصفعهم
-عندما يضربك شخص آخر ويصفعك ويهددك يجب أن تخضع له
-العنف شر ولكنه في الوقت نفسه أمر جيد لأن من مصلحة الطفل أن نضربه.
ومثل هذه المعايير السلوكية يمكنها أن تشوه البوصلة الداخلية للطفل وتجعله غير قادر على التمييز بين الحق والخطأ، بين الخير والشر. كما أنها تفقده القدرة على مواجهة تأثير العنف الثقافي المتمثل في الدعاية والإشاعة والإعلان، كما تفقده القدرة على مقاومة الإغراءات التعصبية المضللة التي تتعلق بالإرهاب والعنف في المستقبل. وهكذا فإن ممارسة العنف ضد الآخر من أجل الحزب وخير الأمة والدين والوطن أمر يبدو طبيعيا ومشروعاً إن لم يكن مطلوبا وواجبا. وهذه الأمور كلها يكون الفرد قد تلقاها وتشبع بها في مرحلة الطفولة حيث كان الدماغ آخذا بالنمو والتشكل، وهذا العنف يمكن أن يصل إلى أبعد مما نتصور وذلك حين يصل تأثير العنف الطفولي إلى درجة يتم فيها تدمير أحاسيس الطفل ومشاعره التي تتعلق بالرحمة والشفقة والحس الإنساني.
الغيرية ومحبة الآخر
يتأصل في الإنسان قانون فطري قوامه التعاطف مع الآخر ومحبته، وهذه القانونية الفطرية تسمح لنا بأن نتواصل مع الآخر ونفهمه ونقدره. وتلك هي القاعدة الانفعالية والعاطفية لمبدأ الغيرية. وهناك منظومة من الإشارات والتجارب التي تدل على حضور هذه القاعدة الأخلاقية، حيث بينت بعض التجارب أن القرود برهنت أنها قد تحرم نفسها من الطعام إذا اقتضى الأمر في سبيل مساعدة بعض أبناء جنسها. وهذه القاعدة الفطرية قاعدة أخلاقية ذهبية ومفادها: «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم»، فهذه القاعدة كامنة في فطرتنا وموجودة في أعماقنا إذا لم تدمرها التربية نفسها، وهذا يعني أن تربية التسلط تدمر فطرتنا وتشوه قوانينها الداخلية الرائعة. فالطفل الذي يعاني من قهر والديه وتسلطهما يتعين عليه أن يتبلد كليا ويفقد مشاعره الإنسانية كي يستطيع الاستمرار في الحياة والوجود، وهذا يعني أنه يدمر في ذاته مختلف أحاسيسه الإنسانية الطبيعية، ولاسيما محبة الآخر والشعور بآلامه والتعاطف مع قضاياه. وهنا وعندما يتم تدمير هذه الحاسة الإنسانية والحس الأخلاقي فإن كل أخلاق العالم والدين لا تجدي نفعا ولا تقدم ولا تؤخر في إحياء هذه الأحاسيس الإنسانية المدمرة. والأسوأ أن هؤلاء الأطفال المحرومين قد يصبحون مادة رخيصة للأيديولوجيات النارية المدمرة التي تدعو إلى الإرهاب وسفك الدماء. والأمثلة في التاريخ لا تحصى حول هؤلاء الأشخاص الذين تبلدت مشاعرهم وتصنمت أحاسيسهم بتأثر هذه التربية التسلطية، أليس من المستغرب أن يقع شعب أوربي متحضر ومتدين كالشعب الألماني تحت سيطرة رجل متسلط مثل هتلر حيث قاد شعبه والإنسانية إلى مقاصل الموت والعدم، ألم يكن هتلر مثالا للطفل الذي تلقى في طفولته تربية تسلطية رهيبة مُذلة فهيأته لدور إجرامي كاد أن يودي بالحضارة الإنسانية برمتها. وهذا ما أعلنته أليس ميللر في أبحاثها حول طفولة الطغاة في القرن العشرين، حيث بينت أنهم جميعاً كانوا ضحايا للعنف التربوي في مرحلة الطفولة.
قد يقول قائل، وكيف تفسر لي أنني قد تعرضت للضرب ولم أصبح مجرماً رغم ذلك؟ وهنا نقول إنه لمن حسن الحظ فإن النتائج المدمرة للعنف في مستوى الدماغ وسيكولوجية الفرد تعوض في أغلب الأحيان مع وجود أشخاص آخرين في حياتنا يحيطوننا بحبهم وحنانهم، وهذا من شأنه أن يعوض ويعيد للفرد المعنّف استقامته واندماجه الأخلاقي في نسق من العلاقات الإنسانية والاجتماعية المسالمة.
وفي الخاتمة يمكننا القول إنه عندما يأخذ المرء علما بالتناقضات والآثار المدمرة للعنف على شخصية الطفل ودماغه فإنه يستطيع أن يواجه هذا التحدي ويعمل على خفض مستويات العنف الموجهة إلى الطفل بأقصى درجة ممكنة. وهذا يعني أن الامتناع عن ممارسة أي صيغة من صيغ العنف يمكن أن تساعد على تنمية عقول الأطفال وأدمغتهم وحياتهم العاطفية في المستقبل، وهذا بدوره يؤدي إلى تقليص حدود العنف وممارساته في العملية التربوية. وهذا المنع من استخدام العنف يشكل اليوم برنامج عمل لعدد كبير من المنظمات الدولية الاجتماعية والتربوية، حيث تعمل منظمة اليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، والمجلس الأوربي مجتمعين لإيجاد صيغة دولية يتم فيها منع استخدام العنف التربوي في مختلف البلدان والمجتمعات الإنسانية المعاصرة.