تحت عنوان الاجتماع بين البلداني لتحسين جودة الخدمات الصحية بما يتوافق مع الكرامة والحقوق الإنسانية للمصابين باضطرابات نفسية، تم عقد المؤتمر الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في القاهرة، حيث كان الهدف من المؤتمر وضع سياساتٍ ودلائلَ إرشاديةٍ وقوائم تفقّدية لتوطيد حقوق المصابين باضطرابات نفسية، وذلك استناداً لما يتوفر لدى منظمة الصحة العالمية من بيانات حول خدمات الصحة النفسية في بلدان المنطقة.
ينبغي الإشارة أولاً إلى أن انتهاكات حقوق المرضى النفسيين ليست مقصورة على البلدان الفقيرة أو على منطقة شرق المتوسط، فقد سجلت حالاتٌ كثيرةٌ من رداءة الخدمات النفسية وانتهاكات حقوق المرضى في جميع أنحاء العالم، حتى في أكثر البلدان ثراءً؛ فمسألة احترام المرضى ومعاملتهم الكريمة هي مسألة فقرٍ أو غنىً في الأخلاق والثقافة والعطاء، وليست بالضرورة مسألة النمو والدخل في البلدان المختلفة.
لدينا في ثقافة المنطقة العربية الإسلامية رصيد كبيرٌ في خدمات الصحة النفسية، فبينما كان الأوروبيون يلاحقون المضطربين ليعذّبوهم أو يقتلوهم في العصور الوسطى؛ كانت المستشفيات النفسية الخيرية قد أنشئت في بغداد في القرنين التاسع والعاشر للميلاد. فمنذ ألف عام أفرَدَ العالم ابن سينا فصلاً كاملاً للأمراض النفسية في كتابه قانون الطب واصفاً فيه أمراضاً وأعراضاً كالكآبة والضلالات وغيرها من أمراض النفس، وكان الرازي والأهوازي والجرجاني ممن كتبوا في نفس الموضوع منذ القدم. وفي عهد المنصور قلاوون (1284) أنشئت عنابر خاصة في المستشفيات العامة للمرضى النفسيين، مثل دار الشفاء في مصر. وكان المرضى يعالَجون بالموسيقى والعطور والزيوت وأطايب الطعام في ذلك الوقت.
وفي عصر النهضة، ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، كان المرضى يوضعون في سفينة دون قبطان تبحر بغير وجهة لكي لا ترجع بمن فيها إلى المدينة أبداً، وقد أشار الفيلسوف ميشيل فوكو إلى "سفينة المجانين" التي كانت تحمل المرضى بعيداً عن باريس عبر نهر السين إلى غير رجعة. وعندما أنشئ مستشفى بيثليم في بريطانيا في القرن الثامن عشر، كان الهدف منه عزل المرضى كما تَعزل السجون المجرمين بعيداً عن المجتمع. وكان بعض السكان يدفعون قرشاً واحداً لإدارة المستشفى مقابل السماح لهم بمشاهدة تعذيب المرضى هناك. لم تشهد مستشفيات أوروبا المعاملة الإنسانية للمرضى النفسيين حتى مجيء فيليب بينيل الذي أخذ بفك القيود عن المرضى وتشخيصهم ومحاولة تقديم العلاج لهم، ومنذ ذلك الحين أخذت أوروبا بالنهوض المستمر في خدمات الصحة النفسية ونشر ما أحرزته من تقدّم إلى جميع أنحاء العالم.
اليوم، تفتقر الكثير من بلدان المنطقة إلى خدمات مقبولة في مؤسسات الصحّة النفسية، كما يفتقر الكثير من البلدان إلى التشريعات التي من شأنها حماية المرضى النفسيين وحفظ حقوقهم التي تترك في الغالب إلى ضمير المؤسسات والمعالجين. لا يزال بعض المرضى يُكبَّلون ويُحتجزون في معازل، في بعض مؤسسات الصحة النفسية في الشرق الأوسط, دون أي حاجة إلى ذلك. وبينما لا توجد لدينا السلاسل والأقفاص لتقييد المرضى في فلسطين -لحسن الحظ- لدينا –للأسف- المبالغة في استخدام الأدوية، مع القليل من العلاج النفسي بالتحدث والعناية الإنسانية، تلك الأدوية قد تعمل كقيود كيماوية لتكبيل المرضى أحياناً، كما تعمل الوصمة كقفص يكبل المريض من الحراك الاجتماعي في معظم الأحيان.
ولا يكون انتهاك الحقوق فقط بالتقييد بالسلاسل، فإن من انتهاك الحقوق أيضاً تقديم الخدمات الرديئة كالوجبات غير الناضجة والمراحيض القذرة. كما أن من الانتهاك إهمال المرضى كتركهم لأيام طويلة أو لسنوات في مؤسسات الصحّة النفسية، يقضون أيامهم في تدخين السجائر، أمام التلفاز أو في النوم المتواصل، دون أيّة استشارة ودون أي باعث للأمل، حتى تتآكل إنسانيتهم وتتلاشى شخصياتهم أمام ناظري المؤسسة المتبلدّة.
من طرائف العلاقة بين مهنيي الطب النفسي ومرضاهم النادرة التالية. بينما كان أحد الأطباء يهم بمغادرة المستشفى انتبه إلى أن أحد دواليب سيارته مثقوب فسارع إلى تبديله. وقبل أن يثبت البراغي الأربعة جاءت سيارة مسرعة فبعثرت البراغي الملقاة على الأرض فأخذ الطبيب يفتش حائرا عن هذه البراغي فلم يجد منها واحداً إلى أن اقترب منه احد المرضى وكان قد راقبه من بعيد فرأى كل ما حدث له. فقال المريض للطبيب: "لا عليك من تلك البراغي، فك واحداً من دواليب السيارة الثلاثة واستخدمها في تثبيت الدولاب الرابع. فنظر الطبيب إلى المريض بإعجاب وكان محرجاً من نفسه. تُجسد هذه الطرفة حقيقةً يتغاضى عنها معظم الناس، وحريٌّ بنا أن نذكّر حتى المهنيين منا بها: إن وجود اضطراب ما في المريض النفسي لا يعني أن كل ما في ذلك المريض مضطرب. أود التأكيد على هذه الحقيقة لكثرة ما سمعت –وللأسف من بعض الزملاء- من تذرّع بأن فلاناً "مريض" لذا يجب عدم أخذ شكواه من سوء المعاملة على محمل الجدّ. ففي اعتقاد البعض، لا توجد مصداقية لأي من أقوال المريض أو أفعاله، وهذا اعتقاد غير صحيح وينتهك العلم كما ينتهك حقوق المرضى النفسيين.
إن المرض النفسي لا يسلب المصاب حقوق الإنسان وحقوق المواطنة التي يتمتع بها الآخرون، وإنما يمنحه حقوقاً إضافية كالرعاية الطبية والاجتماعية وسقوط بعض التكاليف. كسائر الناس، يستحق المريض تناول الطعام المتوازن والاستحمام بمياه دافئة واستخدام مراحيض نظيفة... إلخ. إن التذرّع بالفقر وعدم وجود طواقم كافية ليس هو السبب الحقيقي لغياب هذه الخدمات. في الواقع، إن النوايا الطيبة والإدارة الحكيمة كفيلة بتحسين خدمات المرضى النفسيين لدرجة مقبولة جداً- حتى في البلدان الفقيرة.
على هامش المؤتمر في القاهرة، أشاد السيد بنيديتو سراتشينو، مدير دائرة الصحة النفسية في منظمة الصحة العالمية، بتحسين الخدمات في مستشفى الأمراض في بيت لحم على مدى السنوات الماضية، وذلك بالرغم من قلة الموارد المادية. كما أشاد بمبادرة المجتمع المحلي إلى فك عزلة المرضى النفسيين في البلدان الفقيرة، فذكر على سبيل المثال مبادرة أحد رجال الإصلاح في السنيغال إلى تأهيل ثمانمائة نزيل في مستشفى الأمراض النفسية ليعملوا في المصانع، كما تم إنشاء محطتي باص وأفضل كافتيريا لتناول الكابتشينو والحلويات في مستشفى الأمراض النفسية في البرازيل. باختصار، يتوجه العالم من حولنا نحو فك القيود وإغلاق المعازل وفتح أبواب المجتمع للمرضى النفسيين، ونحن أيضاً بحاجة إلى رسم خطة واضحة المعالم، قابلة للتنفيذ ثم للقياس، وملائمةٍ لظروف بلادنا، من أجل ضمان حقوق المرضى النفسيين والمحافظة على كرامتهم.