- لطالما كان التعصب وما زال مرض الشعوب، ويظهر التعصب جلياً بصور وصيغ مختلفة، فمنه ما يظهر بشكل علني، والبعض الآخر يظهر بشكل خفي متستر، وهو ما تتم ممارسته في أغلب الأحيان.

- تؤثر بعض المؤسسات الاجتماعية والثقافية بشكل لا شعوري في تعزيز تأصيل مظاهر التعصب، ومما يزيد الطين بلة أن العديد من المؤسسات تعمل على التأثير بشكل واع ومقصود في الأفراد وتدفعهم لتبني سلوك تعصبي يتوافق ومصالح المؤسسة. ومما لا ريب فيه أن هنالك العديد من الممارسات التعصبية في مجتمعاتنا العربية، فما أكثر تلك الشخصيات المسماة بالشخصيات المستبدة (Authoritarian Personalities) وهي شخصيات تتغنى بأمجاد المجموعة التي تنمني إليها، كالعشيرة أو الطائفة أو الجنسية أو حتى فريق كرة القدم المفضل لديها، فنحن نقوم بتقسيم عالمنا الاجتماعي فوراً دونما تفكير بـ "نحن" (In group) وما يحيد عنا بـ "هم" (Out group)، فكل ما لا يتوافق وآراء جماعتنا هو خاطئ وبال وغير جيد.

- الشخص الاستبدادي يرفض "الآخر" ممن يختلف معه، ويعتقد أنه يحتكر معرفة الحقيقة، وأنه من غير الممكن الترنح عن إطار عما تراه جماعته صائباً. ويرى الأشخاص ذوي الشخصيات المستبدة أو المتعصبة بأن جميع الأفراد المنتمين إلى أصل قومي أو طائفة أو جنس أو حتى منطقـة في بلـد مـا، بخيلون، أو خبيثون، أو أغبياء، أو كاذبون، أو ربما تلصق بفئة معينة صفة إيجابية كالذكاء أو النباهة أو الكرم أو غيرها، وهو ما يسمى بالتنميط الاجتماعي (Stereotype) والذي يؤدي إلى إعطاء حكم مسبق عن الأشخاص دونما تفكير. وتؤدي العوامل الثقافية دوراً كبيراً في تغذية الفكر التعصبي، إذ إن هنالك العديد من الأيديولوجيات العلنية أو الضـمنية ممن تعمل على خلق الفكر التعصبي.

- العديد من الأيديولوجيات العنصرية ترتكز إلى ادعاءات علمية مثل أن أحد الأجناس أذكى بيولوجيا من الأجناس الأخرى، وأن جيناتهم مختلفة عمن غيرهم من الأجناس. وتعود التصورات النمطية إلى تركيبة ثقافية يتشربها الطفـل مـن محيطـه الاجتماعي خلال تنشئته، فالتعصب ينتقل من جيل إلى جيل، ومن الكبار إلى الصغار. فالأسر التي تعمل على تعزيز قيم العشائرية والطائفية والعرقية، لا تتعدى كونها تزرع قنابل موقوتة في المجتمع. ولا ريب أن إعطاء حكم مسبق على الأشخاص يؤدي دوراً تدميرياً على الشخص والمجتمع بجمه. ويتم تأكيد ممارسات التعصب من قبل الدول، عبر توزيع وتقسيم الوظائف، والذي قد لا يكون معلناً بشكل صريح، بل قد يتم العمل به بشكل مستتر.

- ومما لا شك به أن مجتعاتنا العربية ترزح تحت وطأة قيم العشائرية والاعتزاز بالقبيلة والنسب، وهذا هو سبب دمار وعدم ارتقاء مجتمعاتنا العربية للأسف، إذ إنها من أكثر العوامل التي تخرج الإنسان من دائـرة إنسانيته، ولن يتحقق ذلك إلا بالتجرد منها، والتعامل مع الآخر دونما التركيز على انتماءه العشائري أو العقائدي وما إلى غير ذلك. ولا نستطيع إغفال دور الخطب الطائفية سواء أكان بقصد أو عن حسن نية، في زرع الفكر التعصبي في نفوس العديد من الأشخاص، مما لهم من قيمة وأهمية لدى البشر.

- كما إن مناهجنا التربوية مشبعة بمفاهيم العداء والعنف والظلم، والتي تغرس في نفوس الأطفال ثقافة التعصب ومفاهيم الانغلاق الثقـافي منذ نعومة أظفارهم، بدلاً من خلق ثقافة ترسخ في الأطفال قيماً تتمثل في المحبة والتسامح حتى ننشأ جيلاً سوياً من الناحية النفسية. فنظراً لوجود هذه الشخصيات بشكل كبير في مجتمعاتنا، لا شك أن ذلك أسهم بخلق جماعات تمارس طقوساً تطرفية دونما التفكير فيها، فأصحاب الشخصيات المستبدة لا يتفكرون بما تمليه عليهم جماعاتهم، مما يعمل على إلغاء صوت العقل الفردي.

- ترجع نظرية التحليل النفسي ظهور الشخصيات الاستبدادية إلى وجود خلل في مرحلة من مراحل النمو النفسجني، ألا وهي المرحلة الشرجية، ومن أهم صفات الشخصية الاستبدادية هي أنها شخصية سلطوية ومتعصبة جداً، وهي شخصية معارضة محتدة برأيها ولا تظهر سماحة مع من هم مختلفون عنها في العرق، والدين، والجنسية والثقافة وغيرها. وتميل بالغالب إلى الإيمان بالشغوذة والخرافات وتضفي المصداقية على الحكايات الشعبية، ولا تفكر خارج الصندوق. وهي شخصيات تميل للانخراط بالمجموعات أملاً في تحقيق الأمن النفسي وضمان وجوده داخل جماعة يستمد منها قوته. ولن نتمكن من القضاء على وجود هذه الشخصيات والتقليل من حدة الدمار المتفشي حالياً في مجتماعاتنا العربية بالمقام الأول، إلا من خلال اعترافنا جميعاً بأننا مصابون بالتحيّز الاجتماعي، أي انحيازنا إلى جماعتنا ونظرتنا لهم بعين الرضا، ونسب المساوئ والعيوب لغيرنا، والعمل على غرس قيم تقبل "الآخر" بغض النظر عن كونه ينتمي لجماعة أخرى مختلفة عنا، والعمل على إعادة صياغة ثقافتنا وخطاباتنا الدينية والسياسية والإعلامية لتحرير الوعي الشعبي من أوهام ومعتقدات مختزنة للحقد والكره والتمييز، وإلا بقينا نعيش في مدار زمني مختلف عن العالم كما هو حالنا الآن.

للمزيد:

هل يؤثر العنف التربوي في دماغ الطفل