ألم وأمل يظهران من رحم معاناة أم تعرضت لولادة مبكرة يصاب على أثرها وليدها بمتلازمة الشلل الدماغي نتيجة نقص الأكسجين، لتبدأ رحلة خضوعه لدروب العلاج والتأهيل، ليتجاوز معاناته.
ترتبط هذه المتلازمة باضطراب في مجال الحركة وعملية التوازن والوضعية الجسمية السليمة، والتي غالباً ما تنتج عن إصابة أو عطب في أجزاء الدماغ خلال المرحلة الجنينية أو بعد الولادة والتي تؤثر بدورها في تناغم وتوازن حركة العضلات والحركات الإرادية عند هؤلاء الأطفال، تستمر معهم مدى الحياة بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، وتعد من أكثر أسباب الإعاقة الحركية عند الأطفال التي تحتاج إلى كثير من الإمكانات في علاجها والحد من مشاكلها المصاحبة.
ما هي أسباب الإصابة بمتلازمة الشلل الدماغي عند الأطفال؟
يجري تزويد الجنين بالأكسجين من دم الأم عن طريق المشيمة، لذا لابد أن تعمل المشيمة بشكل جيد وأن يكون الوريد السري الموجود في الحبل السري سالكاً. بيد أن التقلصات الرحمية أثناء المخاض قد تخفض أو تمنع تماماً جريان دم الأم إلى الجنين، معرضة بذلك صحة الجنين للخطورة، ويمتلك معظم الأجنة احتياطياً كافياً من الأكسجين للتعامل مع انخفاض إمدادات الأكسجين، غير أن هناك عدداً من الحالات تعاني نقص الأكسجين، ويعد انضغاط الحبل السري أثناء المخاض أحد أسبابها، وهنا تترافق عوامل خطورة عدة قبل وأثناء الولادة باعتلال الدماغ عند الوليد أو إصابته بالشلل الدماغي، ذلك وفقاً لما أوردته منظمة الصحة العالمية.
يقول دكتور سهيل عبدالله الركن، استشاري طب الأعصاب ورئيس جمعية الإمارات لطب الأعصاب: "الشلل الدماغي (Cerebral Palsy) هو اضطراب يؤثر في العضلات، الحركة والمهارات الحركية (القدرة على التحرك بطريقة منسقة وهادفة) لدى الأطفال، ويعد من أشهر أنواع الإعاقات الخلقية على مستوى العالم، حيث يوجد أكثر من 500,000 طفل في أمريكا يعانون علة الشلل الدماغي، الذي ينجم عن تلف في أنسجة الدماغ، أثناء شهور الحمل الأولى حينما تبدأ مرحلة تشكل ونضوج دماغ الجنين أو نتيجة لمشاكل صحية أثناء فترة الحمل كإصابة الأم بالتهابات، أو نتيجة للولادة المبكرة.
الطفل الخديج وبخاصة من يقل وزنه عن 1510 جرامات حيث تزيد لديهم فرصة الإصابة مقارنة بمن أتموا فترة الحمل، كما تظهر في بعض الحالات خلال 3 إلى 5 سنوات الأولى من حياة الطفل نتيجة لإصابته بمرض التهاب السحايا أو اضطراب وراثي أو أي مسبب آخر يتداخل مع نمو المخ بشكل طبيعي".
ما هي المشكلات الصحية والأعراض التي ترافق التلف الدماغي؟
تختلف الأعراض باختلاف حجم الضرر الذي لحق بأنسجة الدماغ، فنجد درجات متفاوتة من الإعاقة الجسدية. فالبعض قد يعاني ضعفاً بسيطاً فقط، في حين يعاني آخر إعاقة شديدة فعلى سبيل المثال: قد يصاب الطفل بتلف في أنسجة الدماغ التي تتحكم في عضلات الأرجل فيعاني فقط مشاكل في المشي والتوازن، مع نمو طبيعي في باقي الحركة وتطور ذهني طبيعي، ولكن إذا كان التلف في أنسجة الدماغ كبيراً ينتج عنه فقد السيطرة بشكل كامل على وظائف الحركة والعضلات وتخلف في التطور الذهني لدى الطفل.
- اعتلال في البصر أو العمى
- فقدان السمع
- مشاكل في البلع والرضاع
- مشاكل في التغذية والنمو البدني
- مشاكل في النطق
- اضطرابات في النوم
- هشاشة العظام
- مشاكل سلوكية
- الصرع
- مشاكل في النمو الذهني والعقلي
ما هو علاج مشكلة الشلل الدماغي؟
يتطرق دكتور سهيل الركن إلى الطرق المتبعة لعلاج الشلل الدماغي فيقول: "حالياً لا يوجد علاج للشلل الدماغي، ولكن توجد مجموعة متنوعة من الموارد كعلاج تحفظي لتحسين نوعية الحياة لهؤلاء الأطفال ومساعدتهم على تحقيق أقصى قدر من إمكاناتهم في النمو والتنمية الاجتماعية والعاطفية، إضافة إلى ذلك يتم التعامل مع مشاكل التشنج أو الصرع وتيبس أو تصلب الأطراف بالأدوية المناسبة، أو اللجوء للتدخل الجراحي لتحسين وظيفة العضلات.
ومن الطرق الحديثة لعلاج التيبس الطرفي مضخة "الباكلوفين" أو جراحات تحرير أوتار العضلات أيضاً، كما ينصح بتناول الوجبات الغذائية الغنية بالكالسيوم وفيتامين (د) والفوسفور لتحسين وتقوية العظام".
ينصح د.سهيل الركن بأن يقوم بالإشراف على الأطفال المصابين بالشلل الدماغي فريق طبي متكامل، يشمل طبيب الأطفال أو طبيب الرعاية الأولية، واختصاصي التغذية، ومعالج النطق واللغة، والمعالج الوظيفي والحركي، والاختصاصي النفسي والاجتماعي، حيث يساهم هذا الفريق الطبي بالعناية المتكاملة للطفل المصاب.
العلامات المبكرة للإصابة بالشلل الدماغي
وفق د. أميمة السيد استشاري الأطفال فإن العلامات المبكرة التي يمكن بها توقع إصابة الطفل بالشلل الدماغي عند ولادته:
- صغر محيط الرأس عن المعدل الطبيعي
- صعوبة عملية الرضاعة
- صراخ الطفل المستمر بشكل يتجاوز معدلاته الطبيعية
"هنا يبدأ طبيب الأطفال بسؤال الأم عن ظروف الولادة وما إذا كان الطفل قد تعرض لنقص الأكسجين أو للاختناق أثنائها، أو تعرضها لولادة مبكرة، وما إذا كانت الأم قد تعرضت لأحد الأمراض المعدية أو للإشعاع أثناء فترة حملها خصوصاً في فترة الثلاثة أشهر الأولى التي يتم فيها نمو الجهاز العصبي، وما إذا كان في نفس الحمل توأم متشابه من نفس المشيمة ومات جنيناً قبل الولادة وغيرها من الأسئلة التي تتعلق بأسباب احتمالية إصابة الطفل بالشلل الدماغي، وقد لا يتمكن الطبيب من تحديد أسباب الإصابة لبعض المرضى ولكن تظل النتيجة واحدة، وهنا تقع على طبيب الأطفال مسؤولية إعلام الوالدين بمخاوفه وحثهم على ضرورة المتابعة وإجراء الفحوص اللازمة لتبين أو استبعاد إصابة وليدهم بالمرض".
وتشير دكتورة أميمة السيد إلى أن عدم اكتمال النمو يزيد من احتمالية عدم وصول الأكسجين الكافي للمخ، في حين أن نقص الأكسجين وقت الولادة يقف وراء نسبة لا تتجاوز 10 في المئة من إجمالي عدد الحالات المصابة.
وتردف: "يعتبر تعرض الأم لنوع من العدوى بما في ذلك أنواع العدوى التي لا يمكن اكتشافها بسهولة، إلى مضاعفة احتمالية إصابة الجنين بالمرض ثلاثة أضعاف، ويحدث ذلك بصفة أساسية كنتيجة للتأثير السمي الذي يتعرض له دماغ الجنين من أنواع "السيتوكين" التي يتم إنتاجها كجزء من الاستجابة الالتهابية لجسم الأم لمقاومة العدوى التي أصابتها.
تتعدد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى إصابة الطفل بالشلل الدماغي بعد الولادة أيضاً وأشهرها على الإطلاق:
- إصابة الطفل باليرقان أو ارتفاع نسبة صفراء الدم "البليروبين" إلى معدلات عالية تتسرب من الدم إلى خلايا المخ وتتلفها
- تعرض الجنين لبعض المخاطر أثناء الولادة التي يؤدي لنقص الأكسجين مثل التفاف الحبل السري حول رقبته
- غرق الطفل في السائل الأمينوسي المحيط به
- إصابة الطفل بمرض التهاب الدماغ أو التهاب السحايا عقب الولادة مباشرة
- في حالات نادرة اضطراب كروموسومي ينتج عنه تشوه وراثي في تلافيف المخ تؤدي إلى الشلل الدماغي
لا يصنف الشلل الدماغي في حد ذاته مرضاً جينياً أو وراثياً. فالشلل الدماغي لا يعتبر اضطراباً مرضياً يتطور إلى الأسوأ (ما يعني أن التلف الحادث للدماغ لا يتحسن ولا يصبح أكثر سوءاً)، بيد أن أعراضه تصبح أكثر شدة بمرور الوقت بسبب التلف الذي يصيب المنطقة الواقعة في الدماغ والمعروفة باسم تحت الأم الجافية".
البروتوكول المتبع لتشخيص وعلاج الشلل الدماغي
"يسعى طبيب الأطفال جاهداً لتشخيص المرض بدقة حتى يتخذ القرار في علاجه واختيار الطاقم الطبي المعاون له من باقي التخصصات مثل أطباء الأعصاب والعظام والعلاج الطبيعي والأطباء النفسيين، وكان تشخيص الإصابة بمرض الشلل الدماغي في الماضي يعتمد فقط على التاريخ الطبي للمريض وفحصه جسدياً، وعندما يتم تشخيصه بالإصابة بالشلل الدماغي، يكون إجراء الاختبارات التشخيصية الأخرى مسألة اختيارية، أما الآن فوجود بعض التقنيات الحديثة مثل الأشعة المقطعية بالكمبيوتر (CT) والتصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) وتصوير الأعصاب باستخدام الأشعة المقطعية بالكمبيوتر أو بالرنين المغناطيسي أسهمت بشكل ملحوظ في التشخيص وبخاصة في حالة كون المسبب المرضي للإصابة بالشلل الدماغي غير معروف.
يفضل استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي على استخدام الأشعة المقطعية بالكمبيوتر لدقة نتيجة التشخيص التي يمكن الحصول عليها وكذلك بسبب كونه أكثر أماناً في الاستخدام، ويعتبر دوره مهماً في اكتشاف الحالات المرضية القابلة للعلاج، مثلما هي الحال في إصابات استسقاء الدماغ وتثقبها والتشوه الشرياني الوريدي والورم الدموي لمنطقة تحت الجافية والورم الرطب والورم دودي الشكل، وهذه حالات تتشابه أعراضها مع الشلل الدماغي ولكنها قابلة للعلاج وتصل نسبة حدوثها إلى نسبة تتراوح ما بين 5 في المئة إلى 22 في المئة من إجمالي عدد الحالات المصابة بالشلل الدماغي.
أما تقنية تصوير الأعصاب فتصل في دقتها إلى درجة معرفة التوقيت الذي حدثت فيه الإصابة المبدئية بالمرض، علاوةً على ذلك يمكن لتصوير الأعصاب أن يكشف عن احتمالية كبيرة لإصابة مريض الشلل الدماغي بحالات مرضية مصاحبة مثل الصرع والتأخر العقلي، ويمكن لحالة المريض بهذا الاضطراب أن تتحسن إلى حد ما خلال فترة الطفولة إذا تلقى عناية مركزة من قبل الاختصاصيين، ولكن بمجرد أن تشتد العظام والجهاز العضلي قد يكون من المطلوب اللجوء لجراحة تقويم العظام حتى يمكن أن يطرأ تحسن ملحوظ على الحالة. فمرضى الشلل الدماغي أكثر عرضة للإصابة بالتهاب المفاصل في سن مبكرة عن غيرهم من الأشخاص، ويحدث ذلك بسبب الضغط الواقع على المفاصل من العضلات التي تتميز بالقوة والتصلب المبالغ فيهما. ومع بلوغ سن المدرسة يتم اكتشاف الإمكانات العقلية الكاملة للطفل الذي ولد مصاباً بالشلل الدماغي، فتظهر أنواع متفاوتة من صعوبات التعلم التي لا ترتبط مطلقاً بقدرة المريض على التفكير أو بمستوى ذكائه، حيث يتفاوت المستوى العقلي لمصابي الشلل الدماغي من العبقرية إلى الإصابة بالتأخر العقلي تماماً مثلما هي الحال مع سائر البشر، فيجب حصول هؤلاء المرضى على كل فرصة ممكنة للتعلم وعدم التقليل من شأن قدراتهم أو الاستهانة بها".
من جانبه يقول الدكتور سعيد حامد اختصاصي أول جراحة العظام والكسور: "يأتي دور جراحة العظام في الحالات الشديدة من الشلل الدماغي والمعاناة من التشنجات المتكررة للعضلات والأوتار وأعصاب الجسم المتيبسة وشد العضلات والتواء الأطراف والعظام خصوصاً عظمة الفخذ وعظمة الساق، وعادةً يشتمل التدخل الجراحي لمرضى الشلل الدماغي على إرخاء العضلات المشدودة وتحرير المفاصل الثابتة، ويتم إجراء معظم هذه الجراحات في منطقة الأرداف والركبتين وأوتار المقبض والكاحل، وفي حالات نادرة قد يتم استخدام هذه الجراحة مع الأشخاص الذين يعانون من التيبس في مناطق المرفقين والرسغين واليدين وأصابع اليدين".
ويضيف: "هناك حالات توجب التدخل الجراحي لاستعدال الالتواءات غير الطبيعية في عظام الساق، مثل الالتواء في منطقة الفخذ (الذي يطلق عليه اسم التواء عظمة الفخذ للأمام) وفي عظمة القصبة (التفاف القصبة)، وعادةً ما يؤدي إلى حدوث حالة اتجاه الأصابع للداخل، ويتم إطلاق اسم جراحة إعادة دوران العظام على هذا النوع من العمليات حيث يتم فيها كسر العظمة ثم وضعها مستقيمة في الوضع السليم، وقطع أعصاب الأطراف الأكثر تضرراً من حركات المريض والتقلصات العضلية التي يعانيها ويتم إطلاق اسم جراحة قطع الجذور الانتقائي على هذا النوع من الإجراءات الطبية، وتهدف تلك الجراحة إلى الحد من التقلصات والسماح بدرجة أكبر من المرونة والتحكم في الأطراف والمفاصل المصابة، لتخفيف الإعاقة والألم الناتجين عن التقلص غير السليم للعضلة".
مراحل تطور الشلل الدماغي
عن الهاجس الذي يراود ذوي الطفل المصاب بالشلل الدماغي عن مراحل تطور الحالة فمتى يمشي ومتى يندمج في أنشطته مثل الأطفال العاديين تقول د. آية الغوطي: "كل ما نملك أن نقوله في حال استمرار الطفل على العلاج الطبيعي بشكل يومي ومكثف سوف تأتي بنتائج إيجابية ولكن تختلف الاستجابة من طفل لآخر، فهناك من تستغرق استجابته للعلاج الطبيعي سنة وآخر قد يستغرق أشهراً قليلة ليتمكن من التحكم برأسه. لهذا يجب على الأهل الالتزام بالتمارين والجلسات لمنع تدهور الحالة والسير قدماً في سبيل تحسنها، كما يجب عليهم دائماً الصبر وتشجيع الطفل فهو عامل مهم جداً في سبيل العلاج".